هنا تكمن المشكلة الأساسية في «لقاء باريس» !
لم يسفر الاجتماع الأول للقاء الخماسي في باريس عن نتيجة مباشرة. وهذا الأمر لم يفاجئ أحداً، والمشاركون أنفسهم كانوا يعرفون المناخ مسبقاً. لكن هذا الاجتماع كان محطةً مهمَّة في مسار الأزمة في لبنان، لأنّ مجموعة الخمسة هي النواة التي ستؤسس لمؤتمر الحوار الوطني الموعود، بغطائه الإقليمي والدولي، عندما تنضج ظروف انعقاده.
إنقسم المشاركون في اجتماع باريس إلى طرفين: فرنسا وقطر من جهة، والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، وبين الطرفين تتموضع مصر.
الثنائي الفرنسي – القطري يطمح إلى فتح أقنية اتصال مع إيران لجسّ نبضها والوقوف على رأيها. وهو يقوم بذلك، بناءً على قراءة يعتبرها «واقعية» لموازين القوى على الأرض في لبنان. ففي تقديره، أنّ أي تسوية يتمّ التوصل إليها في باريس ستبقى حبراً على ورق، ما لم تمنحها إيران ضوءاً أخضر، عبر «حزب الله» وحلفائه. ولذلك، فتح القطريون خطوطاً مباشرة مع طهران عشية اللقاء، فيما كانت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا تتولّى تمهيد الأجواء من الجهة الخليجية.
هذه النظرة لا يوافق عليها الأميركيون تماماً، ولا السعوديون. وفي اعتقاد الفريقين أنّ التسليم مجدّداً بدور أساسي لإيران في التسوية يعني تكريس نفوذها في التركيبة اللبنانية لسنوات أخرى. فالسعوديون اتخذوا قراراً حاسماً بعدم تكرار الأخطاء السابقة في لبنان، أي التساهل وتقديم الدعم لحلفاء لإيران. وهم يفضِّلون إبقاء سيف الضغوط مُصْلتاً على عنق هؤلاء في لبنان، حتى يتراجعوا وتأتي التسوية متوازنة.
أما الأميركيون فيذهبون إلى ما هو أبعد. هم يعتقدون أنّ إيران ليست في موقع قوةٍ يسمح لها بالمعاندة، وأنّها في النهاية ستتنازل في عدد من مناطق نفوذها في الشرق الأوسط، ومنها لبنان، وستقبل بالتسوية من دون أثمان تُذكَر. وفي الانتظار، لا بأس بإبقاء مستوى الضغوط عالياً عليها وعلى حلفائها في لبنان، من خلال العقوبات.
يوافق الفرنسيون على استمرار الضغوط، وحَراكُهم الأخير في لبنان على الخط القضائي يندرج في هذا الإطار. لكنهم في المقابل لا يحبذون قطع «طريق العودة» على إيران، ما دامت تحتفظ بأوراق القوة على الأرض.
إذاً، ليس هناك خلاف داخل أطراف اللقاء الخماسي على الأهداف، إنما هناك تباين بين وجهات نظر متعددة. الفرنسيون والقطريون يريدون من الضغط على إيران أن يكون حافزاً لها لكي تكون شريكاً في التسوية. وأما الأميركيون والسعوديون فيريدون الضغط عليها لتوافق على تسوية تُبعدها وترفع نفوذها عن البلد.
في أي حال، هو كان اللقاء الأول، وسيكون هناك لقاء ثانٍ في باريس لبلورة اتفاق. لكن موعده مرهون بقدرة الشركاء على إنضاج الظروف المناسبة لتحقيق هذا الهدف. وهذا الأمر يستلزم مشاورات مكثفة داخل المجموعة، وجسّ نبض الطرف الإيراني واتجاهاته في المرحلة المقبلة.
لكن مصادر ديبلوماسية توضح، أنّ صيغة الاجتماع، التي ولدت رباعية ثم أصبحت خماسية بانضمام مصر إليها، ليست في الواقع مجرد إطار مرحلي، واختيار أركانه لم يحصل اعتباطياً، بل هو نتيجة تخطيط فرنسي مركَّز يهدف إلى خلق مرجعية إقليمية – دولية توفّر حداً من الحماية للدولة اللبنانية يمنع انهيارها الكامل، ويؤسس لتسوية تتشارك فيها القوى المعنية كافة، ويمكن أن ترسم مستقبل لبنان.
فالمجموعة التي يضمّها لقاء باريس ستكون هي نفسها مرجعية الحوار المرتقب بين القوى الداخلية اللبنانية في مرحلة لاحقة، أي المؤتمر الوطني اللبناني، عندما ينجح الغطاء الإقليمي- الدولي في إرساء الخطوط العريضة. ويمكن أن تكون باريس مقراً للمؤتمر أو أي من عواصم الدول العربية الثلاث المشاركة في اللقاء الخماسي: الرياض، الدوحة أو القاهرة.
والمشكلة الأساسية تبقى في طريقة مقاربة الطرف الإيراني وحدود التنازلات التي يمكن أن يقدّمها في لبنان. وثمة من لا يستبعد حصول مقايضات مع إيران على امتداد بقعة نفوذها في الشرق الأوسط، من اليمن والعراق وسوريا إلى شاطئ المتوسط، قد تفتح أبواب تسوية، ولو مرحلية، في لبنان؟
لكن البعض يعتقد أنّ الصفقة باتت أكثر صعوبة بعد دخول إيران المباشر على خط الحرب في أوكرانيا، شريكةً لموسكو، وفي ظلّ حملات إسرائيل المتزايدة تجاه إيران وبرنامجها النووي، وانقطاع كل فرص التوصل إلى اتفاق حول هذا الملف مع الولايات المتحدة والغرب.
لكن المصادر الديبلوماسية تعتقد أنّ باب التسويات ليس مغلقاً تماماً. ومن الدلائل منح إيران حلفاءها في لبنان ضوءاً أخضر لتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، الذي تمّ إنجازه برعاية الولايات المتحدة. فهو يعني أنّ الإيرانيين حصلوا على الثمن أو سيحصلون في مكان آخر.
فهل ثمة فرصة ليكون لقاء باريس ضمان تسوية ممكنة، تمنع لبنان من الوصول إلى الأسوأ سياسياً واقتصادياً وربما أمنياً، حيث مخاطر تفكُّك الدولة تتزايد سريعاً؟
طوني عيسى- الجمهورية