مدينة سرية ضائعة تحت الأهرامات وأسطورةُ الجيزة الجديدة: اكتشاف تاريخي أم تزييف علمي؟

مرةً جديدةً تعود أهرامات الجيزة إلى واجهة الأخبار بادعاءات مثيرة للجدل. فما إن انتشر الخبر حتى فاضت وسائل التواصل الاجتماعي بفيديوهات تحتفل بهذا الاكتشاف الجديد. احتفالاتٌ تختلط فيها الحقائق بالأوهام، وتزدهر بها نظريات المؤامرة والعلوم المزيفة، وكأنها تجسيدٌ حيٌ لكلمات كارل ساغان في كتابه العالم المسكون بالشياطين: “نعيش في مجتمع يعتمد على العلم والتكنولوجيا، لكن يكاد لا يعرف أحد شيئًا عنهما”. أسطورةُ الجيزة الجديدة هذه ليست سوى حلقةٍ في سلسلة أزمة تآكل الفكر النقدي في عصر الخوارزميات.

عجائب هندسية تحت أهرامات الجيزة؟
في الخامسَ عشرَ من آذارَ الماضي، أعلن فريق بحثي يُعرف باسم “مشروع كوفري” عن اكتشاف هياكل صناعية ضخمة تمتد لعمق كيلومترين تحت أهرامات الجيزة. تضمن الكشف ثمانيَ أسطوانات عملاقة ذات سمات حلزونية تشبه السلالم، بالإضافة إلى منصتين مستطيلة الشكل يصل طول كل منها إلى 80 مترًا، توجد عند نهايات الأعمدة الأسطوانية.

خلال مؤتمر صحفي عُقد في إيطاليا، كشف الباحثان فيليبو بيوندي وكورادو مالانغا عن تقنية تصوير جديدة تجمع بين التصوير المقطعي الدوبلري ورادار SAR معًا! ووفقًا لادعاءاتهم، قاموا بإنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد بمساعدة الذكاء الاصطناعي تشير إلى هياكل عمودية بطول 648 مترًا، متجاوزةً بكثيرٍ عمقَ أي موقع أثري معروف.

تقنية اللصق
تجمع الطريقة الجديدة التي ادعى “مشروع كوفري” استخدامها بين أداتين علميتين معروفتين: رادار SAR الذي يُستخدم عادةً لرصد حركات الأرض عبر إرسال موجات رادارية من القمر الصناعي إليها، ثم تحليل الاختلاف في الانعكاسات. والتصوير المقطعي الدوبلري الذي يقيس التغيرات في الترددات (Doppler shift) الناتجة عن الاهتزازات على سطح الأرض؛ وهي طريقة معتمدة لرسم الخرائط الزلزالية لباطن الأرض.

أوضح الفريق أنه اعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل تلك الاهتزازات وتحويلها إلى تمثيلٍ هندسي ثلاثي الأبعاد. وفي دراسة سابقة نُشرت عام 2022، زعم نفس الفريق استخدام منهجية مشابهة، مدعيًا أن هذه التقنية قادرة على كشف الغرف والفراغات المخفية داخل الأهرامات. إلا أن تلك الدراسة واجهت سيلًا من الانتقادات العلمية، أبرزها غياب الأدلة القاطعة التي تثبت وجود تطابق بين البيانات الخام لمسوحات الرادار والخرائط النهائية المعلنة، والتي بدت كأنها مجرد لصقٍ لخارطة الغرف المخفية فوق صور الرادار من دون أساس جيوفيزيائي مقنع.

المنهج العلمي
رغم الإثارة التي تحملها فكرة اكتشاف “مدينة ضائعة” تحت أهرامات الجيزة، فإن المنهج العلمي ولا سيما في حقلٍ دقيق مثل علم الآثار، لا يستند إلى الحماس أو التمنيات، بل إلى قواعد صارمة. فلكي يتحول أي ادعاء إلى حقيقة علمية، لا بد أن يخضع لسلسلة من الإثباتات: من تكرار النتائج إلى مراجعة الأقران، وصولًا إلى تقديم أدلة ملموسة لا تقبل الجدل. فهل التزم “مشروع جوفري” بهذه المعايير؟

– منهجية غير مثبتة: تعتمد تقنية رادار SAR التقليدية على موجات رادارية يتراوح طولها بين 3 و23 سم. تخترق هذه الموجات التربة الجافة والغطاء النباتي بعمق محدود، لكنها قد تكشف عن معالم تحت سطحية على أعماق تصل إلى بضعة أمتار، مما يساعد في استكشاف الآثار المدفونة تحت الصحاري أو الغابات.

أما الاهتزازات عالية التردد (12 كيلوهرتز) التي ادعى الفريق استخدامها في التصوير الدوبلري، فتنتج موجاتٍ يصل طولها إلى 24 سم داخل الصخور (بالتأكيد ليس 2 كيلومتر)، أي أنها أقصر بكثير من تلك المستخدمة في الرصد الزلزالي التقليدي. واللافت أنه لا يوجد مصدر طبيعي معروف لهذه الترددات تحت الأهرامات، بخلاف الحالات الزلزالية العادية التي تُعزى عادةً إلى أسباب محددة (حركة الصفائح التكتونية)، مما يثير شكوكًا حول مصدرها الفعلي!

– القدرة على التكرار: لو كان الادعاء بأن دمج تقنيات معروفة مثل رادار SAR والتصوير المقطعي الدوبلري والذكاء الاصطناعي في نظام واحد قادر على الرؤية حتى عمق كيلومترين تحت سطح الأرض صحيحًا، لاستحق ذلك جائزة نوبل دون الحاجة إلى “اختراع” مدينة ضائعة!

هذا النظام غير متاحٍ لباحثين آخرين لتكرار التجربة، وهو ما يناقض أساسًا جوهريًا في المنهج العلمي: إمكانية التحقق من النتائج عبر تكرارها.

– مراجعة الأقران: لقد قام فريق كوفري بإعلان نتائج اكتشافه في مؤتمر صحافي، من دون نشره في دورية علمية تخضع لمراجعة الخبراء. فمراجعة الأقران (Peer Review) ليست خطوة اختيارية، بل هي آلية حيوية ترسم الحد الفاصل بين الحقيقة العلمية والادعاء. أضف إلى ذلك أن تشكيك المجتمع العلمي في الاكتشافات الجديدة سمةٌ جوهريةٌ في ثقافته البحثية. فالباحث لا يقبل التشكيك فحسب، بل ينتظره كخطوة طبيعية في أي بحث يقدم عليه.

خلفيات الباحثين
بالعودة إلى الورقة البحثية التي قدمها الفريق نفسه عام 2022، والتي واجهت رفضًا واسعًا من المجتمع العلمي بسبب دمجهم خرائطَ لغرفٍ مفترضة مع بيانات مسوحات الرادار داخل الهرم الأكبر دون أي تطابقٍ جيوفيزيائي بينهما، فإن الادعاءات الجديدة المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي تعزز الشكوك حول مصداقيتها. لكن المفارقة الأكثر إثارةً للقلق (أو ربما الضحك) تكمن في دور الباحث الإيطالي كورادو مالانغا، أحد أعمدة “مشروع كوفري”، الذي سبق أن نشر نظرياتٍ حول اختطاف البشر من كائنات فضائية، لا سيما في كتابه “Aliens and Demons: The Battle for Eternal Life”، مما يطرح تساؤلاتٍ جادةً عن منهجية الفريق وموضوعيته.

في الختام، لا بد من استحضار مقولة كارل ساغان: “العلم نهجٌ في التفكير أكثر منه كومةً من الحقائق”. وأهرامات الجيزة، التي شيدت عبر التراكم المعرفي القائم على الملاحظة والتجربة والخطأ، تجسد هذا المبدأ. قد تستهويك نظرياتُ غراهام هانكوك (صاحب مسلسل Ancient Apocalypse) عن حضارةٍ متقدمةٍ اختفت قبل 12 ألف عام، فهي أساطيرٌ مغريةٌ تلبى شهيتنا لـ”المعرفة الممنوعة”، لكنها في الحقيقة تسرق من الإنسانية أعظمَ أسلحتها: القدرة على حل الألغاز بالمنطق والعقل. فالصراع ضد العلوم الزائفة ليس مجردَ معركةٍ لدحض الأكاذيب، أو حراسةٍ لـ”برج العلم العاجي”، بل هو دعوةٌ لصياغة رواياتٍ أعمقَ عن تاريخنا، تلهم الأجيالَ القادمة بأن الحقيقة وإن كانت معقدةً، فهي تُبنى بجهدٍ جماعي، لا بأساطيرَ جاهزةٍ تغلف الجهلَ بالتشويق.

نافع سعد-  المدن

مقالات ذات صلة