بعد الدوّامة الجهنّميّة من التعطيل: حرب المواقع القضائيّة بدأت بـ…”تكليف شرعي”!

منذ بدأ الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله تقديم “إرشاداته العليا” لأوّل محقق عدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت فادي صوّان، أدرك المراقبون الذين واكبوا نماذج سابقة من التحقيقات في الجرائم التي استهدفت اللبنانيين، أنّ زلزال نيترات الأمونيوم الذي دمّر عاصمتهم وأهلك وجرح الآلاف من مواطنيهم سوف يضرب، بالعنف نفسه، كلّ محاولة للوصول الى حقيقة ما حصل .

وسرعان ما بدأ هذا الاستشراف السلبي يتجسّد في الوقائع، بحيث تمّت تنحية المحقق صوّان وجرت تسمية القاضي طارق البيطار مكانه.

كان الجميع يعتقد بأنّ البيطار استوعب الدرس وسوف يسير بموجب ” التكليف الشرعي”، لكنّه فاجأهم بذهابه إلى أبعد ممّا كان صوّان قد وصل إليه، فاستدعى بالاضافة الى رئيس الحكومة السابق حسّان دياب وعددٍ من الوزراء السابقين، قيادات عسكريّة وأمنية واداريّة ” محميّة جدًا”، كما راح يستمع الى افادات شهود كانوا قد لمّحوا الى استفادة “حزب الله”، في اوقات متفرقة، عبر “خطّه العسكريّ”، من مخزون نيترات الامونيوم قبل انفجاره أو تفجيره في الرابع من آب/ اغسطس ٢٠٢٠.

وما إن أقدم البيطار على خطوته هذه، حتى دخلت التحقيقات في دوّامة جهنّميّة من التعطيل.

في المرحلة الأولى، اصطدم داعمو التحقيقات، بقيادة أهالي الضحايا برافضيها ، بقيادة “حزب الله”. أدّى ذلك إلى إحياء شبح الحرب الاهلية، من خلال ما سمي بأحداث الطيونة، حين تصدّى شباب من محلة عين الرمانة ذات الاغلبيّة المسيحيّة لتظاهرة حاولت اقتحام أحيائهم مقبلة من محلّة الشياح ذات الأغلبيّة الشيعيّة.

في المرحلة الثانيّة، انتقلت الاضطرابات من الشارع الى المنظومة الحاكمة، عندما بدأ الرؤساء والوزراء يتناوبون على منع تشكيل الهيئات القضائية التي يمكنها أن تحسم مسائل قانونيّة يتم توسلها لتجميد التحقيقات.

وفي المرحلة الثالثة، دخلت الاضطرابات الى الأجهزة القضائية نفسها، عندما رضخت مجموعة من اعضاء مجلس القضاء الأعلى لمساعي وزير العدل هنري خوري تعيين قاض رديف ليأخذ دور المحقق العدلي الأصيل المكفوفة يداه عن الملف، من أجل البت بعدد من الامور العالقة. وكان يمكن لهذه الخطوة التي جاءت تحت لافتة “إنسانيّة العدالة” أن تمر على خير، لكنّ الجهات السياسية التي يتحرك وزير العدل باسمها، لم تكتفِ باجتراح بدعة المحقق الرديف، بل تخطت ذلك الى محاولة أن يكون هذا المحقق الرديف مضمون الولاء لواحدة من الجهات السياسية الغاضبة من تمرّد البيطار على “التكليف الشرعي”.

حاليًا، وصلت التطورات المحيطة بالتحقيقات الى مرحلتها الرابعة، إذ إنّ القرار الذي اتّخذه البيطار لاستعادة صلاحياته لم يقسّم القضاء اللبناني، فحسب بل جعله ينصب المتاريس في حرب مفتوحة، أيضًا.

وهذه الحرب التي يتبادل فيها النائب العام التمييزي غسان عويدات، المدعى عليه في ملف انفجار المرفأ القصف الكلامي والاجرائي مع المحقق العدلي طارق البيطار، المدّعى عليه بالتمرد على القانون، لن تنتهي قبل الإجهاز على آخر ما تبقى صامدًا في المؤسسة القضائيّة، اذ من البديهي أن تتباين نظرة القضاء الواقف(النيابة العامة) مع نظرة القضاء الجالس( قضاة التحقيق والمحاكمة) في الملفات التي يتعاونون على إنجازها، لكن ليس من الطبيعي أبدًا أن يصل هذا التباين الى مواجهة مفتوحة لها أبعاد سياسيّة وقد يتم تحميلها أبعادًا طائفيّة.
وما يحصل على هذا المستوى، وعلى الرغم من كارثيّته، إلّا أنّه ليس مستغربًا، فحين تسقط الدولة على يد الدويلة لا بدّ من أن يسقط القضاء في أتون “شريعة الغاب”.

وليس من قبيل العبث أنّ ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، وحين كانت لندن تعيش تحت وابل الغارات النازيّة، وفي اطار محاولة قياس قدرة صمود شعبه على هذا الجحيم، بادر الى السؤال عن حال القضاء، وعندما قيل له إنّه بخير، أجاب: “إذن، بريطانيا بخير”.

إنّ “لبننة” قاعدة تشرشل تعني أنّ لبنان كان يمكن أن يكون، على الرغم من الكوارث التي ألّمت به، بخير لو كان القضاء بخير.

فارس خشان- النهار العربي

مقالات ذات صلة