هذه هي ورقة واشنطن للضغط على بيروت: كيف يقرأها الثنائي الشيعي؟

على إيقاع صراع طويل، يمتد لعقود بين لبنان وإسرائيل، تحاول إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعادة رسم خريطة التطبيع في المنطقة، مستغلة تداعيات الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله. لكن هذه المحاولة، التي تأتي عبر قنوات دبلوماسية وضغوط سياسية، تصطدم بجدار عربي راسخ، تقوده السعودية، يشترط إقامة دولة فلسطينية وفق حل الدولتين قبل أي خطوة تطبيعية مع تل أبيب.
في هذا السياق، تعتبر مصادر مقربة من الثنائي الشيعي أن واشنطن تحاول الالتفاف على الموقف السعودي عبر بوابة بيروت، مستغلة الأوضاع السياسية والاقتصادية الهشة في لبنان، ومراهنة على أن ضعف حزب الله بعد الحرب الأخيرة قد يفتح نافذة للتقارب بين لبنان وإسرائيل، ولو تحت عناوين غير مباشرة.
المفاوضات: تقنية أم سياسية؟
تشير التقارير الإسرائيلية إلى أن المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، والتي انطلقت تحت عنوان معالجة القضايا الحدودية العالقة منذ عام 2006، ليست مجرد مباحثات تقنية، بل خطوة في مسار أوسع يشمل إدخال لبنان ضمن إطار التطبيع. صحيفة يديعوت أحرونوت نقلت عن مسؤول سياسي إسرائيلي أن “سياسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو غيّرت بالفعل الشرق الأوسط، ونريد مواصلة هذا الزخم”. هذه التصريحات تكشف عن نوايا إسرائيلية تتجاوز مجرد ترسيم الحدود إلى محاولة إعادة تشكيل المشهد السياسي في لبنان وربطه بمعادلة التطبيع الإقليمي.
الثنائي الشيعي ذو الموقف المعروف بالرفض الكلي لأي شكل من أشكال التطبيع، قالت مصادر قريبة منه لموقع “لبنان الكبير” إن “الادارة الأميركية تحاول الالتفاف على الموقف السعودي الرافض للتطبيع بدون اعطاء الفلسطينيين حقهم، ولا يبدو أن واشنطن تكتفي بلبنان بل تريد لقطار التطبيع أن يمر بسوريا أيضا، بمحاولة مفضوحة لاستغلال وضع بيروت ودمشق الحالي، وهدفها في نهاية الأمر إحراج الرياض”.
من جهتها، سارعت الرئاسة اللبنانية عبر مصادرها إلى نفي أي علاقة لهذه اللجان بالتطبيع، مؤكدة أنها “مكلفة فقط بحل النقاط العالقة”. لكن توقيت هذه المفاوضات، بعد الحرب الطويلة بين إسرائيل وحزب الله، والتدخل الأميركي الواضح في صياغتها، يثيران تساؤلات جدية حول الأهداف الحقيقية وراء هذا التحرك.
سياسة الترهيب والترغيب
الولايات المتحدة لم تكتفِ بتقديم المفاوضات كقضية تقنية، بل لجأت إلى ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على لبنان لإجباره على تقديم تنازلات في هذا المسار. السفيرة الأميركية السابقة في بيروت، ليزا جونسون، لم تتردد في إبلاغ مسؤولين لبنانيين بأن “المرحلة المقبلة تتطلب إشارات واضحة”، وأن “حزب الله لم يعد قادراً على التعطيل”، مشيرة إلى أن أي دعم دولي لإعادة إعمار لبنان يجب أن يكون مشروطاً بسلوك سياسي معين، في إشارة ضمنية إلى التقارب مع إسرائيل.
في هذا الإطار، ترافقت الجهود الأميركية مع تسريبات إعلامية عن أن واشنطن تسعى لإدخال تعديلات على مهام لجنة مراقبة تنفيذ القرار 1701، بحيث لا تقتصر على مراقبة الخروقات الميدانية، بل تتحول إلى منصة تفاوض سياسي بين بيروت وتل أبيب، برعاية أميركية وفرنسية. هذه التعديلات تعني عملياً إنهاء دور اللجنة كجهة تقنية، وتحويلها إلى مسار شبيه بالمفاوضات التي سبقت اتفاقيات التطبيع التي جرت بين دول عربية وإسرائيل في السنوات الأخيرة.
السعودية والموقف العربي
منذ انطلاق موجة التطبيع في عهد ترامب، بدا واضحاً أن السعودية ليست في وارد تقديم تنازلات مجانية لإسرائيل. الموقف السعودي يقوم على قاعدة ثابتة: لا تطبيع قبل حل القضية الفلسطينية وفق مبادرة السلام العربية التي طُرحت في قمة بيروت عام 2002.
هذا الموقف لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل أصبح حجر الأساس في التعاطي السعودي مع ملف التطبيع، وهو ما أربك حسابات واشنطن وتل أبيب. ففي حين سارعت بعض الدول العربية إلى الانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام”، بقيت السعودية على موقفها، ما أضعف الزخم الذي كانت تأمل إدارة ترامب في تحقيقه.
ورأت مصادر الثنائي أن “في ظل هذا المأزق، وجدت واشنطن وتل أبيب أن الضغط على لبنان وسوريا قد يشكل ورقة ضغط على الرياض، في محاولة لإعادة صياغة التوازنات الإقليمية. فإدخال لبنان في مسار تفاوضي مع إسرائيل، حتى لو لم يُعلن عنه كاتفاق تطبيع مباشر، قد يُستخدم لاحقاً لإحراج السعودية والقول إن مسار التطبيع يتقدم حتى دون مشاركتها”.
الاستثمار في الدمار
الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، التي استمرت أكثر من عام، خلّفت خسائر فادحة في لبنان، مع دمار بقيمة 8.5 مليارات دولار ونزوح أكثر من 1.2 مليون شخص. هذه الأرقام لم تكن مجرد تداعيات مأساوية، بل تحولت إلى ورقة في يد واشنطن للضغط على بيروت.
التقارير تشير إلى أن الدعم الدولي لإعادة إعمار لبنان بات مشروطاً بتقديم تنازلات سياسية، حيث تسعى واشنطن إلى استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة لتمرير أجندتها في ملف التطبيع. الإدارة الأميركية ترى في هذه اللحظة فرصة لدفع بيروت إلى مسار تفاوضي مع إسرائيل، خاصة في ظل تراجع قدرة حزب الله على فرض الفيتو على أي محادثات مباشرة.
بين الفخ والواقع
رغم كل هذه الضغوط، لا يبدو أن لبنان مستعد للسير في هذا المسار بسهولة. الذاكرة اللبنانية المثقلة بالحروب والتجارب مع إسرائيل تجعل أي خطوة في اتجاه التطبيع محفوفة بالمخاطر، سواء على المستوى السياسي أو الشعبي.
اللاعبون الأساسيون في المشهد اللبناني يدركون أن الدخول في مفاوضات ذات طابع سياسي مع إسرائيل، تحت الرعاية الأميركية، قد يكون بمثابة سقوط في فخ لا خروج منه. فالتجارب السابقة أثبتت أن إسرائيل لا تدخل في أي مفاوضات دون فرض شروطها الخاصة، وأن أي مسار تفاوضي معها لا ينتهي إلا بتنازلات تمس سيادة الدول التي تتعامل معها.
من هنا، تبدو محاولات ترامب ونتنياهو لجرّ لبنان إلى هذا المسار محاولة غير واقعية، تصطدم بوقائع صلبة، أبرزها الموقف العربي بقيادة السعودية، والرفض الداخلي الواسع لأي تطبيع مع إسرائيل، ناهيك عن تعقيدات المشهد السياسي اللبناني نفسه.
في النهاية، قد تمتلك واشنطن الأدوات لممارسة الضغط، لكن حسابات المصالح في الشرق الأوسط لا تُرسم فقط في مكاتب البيت الأبيض، بل تصنعها الشعوب والتوازنات التاريخية. والتطبيع، إن كان له أن يتحقق، فلن يكون إلا وفق شروط تضمن الحقوق، لا عبر الضغوط والالتفاف على الإرادة العربية.
محمد شمس الدين- لبنان الكبير