عودة القروض المصرفية ممكنة… أم تعيد إنتاج الأزمة؟

بدأت ملامح التعافي الاقتصادي تظهر تدريجياً في لبنان، ولو بحذر، مع اتخاذ المصارف خطوات جديدة تُعيد الأمل إلى السوق المحلية، خصوصاً بعد التدهور الحاد الذي شهده القطاع المالي منذ أواخر العام 2019.
ووفقاً لمصادر مصرفية، عاد بعض البنوك إلى منح قروض لتمويل شراء السيارات بالتقسيط، على أن تُستأنف القروض الشخصية مع بداية الصيف المقبل. هذه الخطوة قد تمنح دفعة إيجابية للشباب اللبناني، الذي يواجه صعوبات مالية منذ سنوات نتيجة الانكماش الاقتصادي وتراجع القدرة الشرائية.
ولكن، ما هي الأسباب التي دفعت المصارف إلى استئناف الإقراض في هذا التوقيت؟ وكيف ستُدار هذه القروض تجنباً لأزمات جديدة؟
بحسب الأخصائيين في الشأن المالي، فإن النظام المصرفي اللبناني شهد تحولاً كبيراً في السنوات الأخيرة، مع اعتماد ما يُعرف بـFresh Dollars، بحيث أصبحت غالبية التعاملات المالية، بما فيها الرواتب والأقساط والرسوم الاستشفائية، تتم عبر هذا الاقتصاد الجديد. ومع توافر سيولة مستمدة من هذه الدولارات، بات بإمكان المصارف إعادة تفعيل الإقراض، ولكن بشروط أكثر صرامة لحماية نفسها من أي مخاطر محتملة.
وعلى الرغم من هذه الخطوة، تظل المخاوف قائمة من تكرار أزمة التسديد التي حصلت سابقاً، حين تم منح القروض بالدولار لكن سُددت بالليرة، ما أدى إلى خسائر كبيرة للمصارف والمقترضين. ولذلك، تعتمد البنوك حالياً إجراءات قانونية تفرض السداد بالدولار، مع أن لا قانون رسمياً يلزم المواطنين بالدفع بعملة غير عملتهم الوطنية.
في ظل هذه التطورات، يبقى السؤال: هل ستكون هذه الخطوة مقدمة لانتعاش اقتصادي حقيقي، أم أنها مجرد حل مؤقت قد يعيد إنتاج الأزمات المالية بأسلوب مختلف؟
عكوش: عودة القروض ممكنة ولكن بشروط
الخبير الاقتصادي والمالي عماد عكوش، يؤكد في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن استئناف المصارف سياسة الإقراض يتطلب معالجة جذرية لمجموعة من التحديات الأساسية التي تعوق دورها التقليدي.
ويشدد على أن الثقة بالنظام المصرفي تشكل حجر الأساس لأي عملية إعادة إقراض ناجحة، مشيراً إلى ضرورة وضع خطة شفافة لمعالجة ودائع المودعين بصورة عادلة ومستدامة، ورفع القيود غير الرسمية على السحوبات والتحويلات تدريجياً ضمن إطار واضح، إضافة إلى تعزيز الحوكمة والرقابة المصرفية لاستعادة ثقة المستثمرين والمودعين.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي
ويرى عكوش أن القطاع المصرفي يحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة، تشمل دمج بعض المصارف الضعيفة أو تصفيتها، وزيادة رسملة المصارف عبر إدخال مستثمرين جدد أو إعادة رسملة ذاتية من المساهمين، وذلك لضمان استمرارية المؤسسات المصرفية القادرة على تحمل المخاطر المالية.
ويشير الى أن على المصارف العمل على تصحيح ميزانياتها من خلال معالجة مشكلة الديون المتعثرة، واستعادة جزء من الأموال التي أقرضتها للدولة، مع التركيز على تحسين جودة الأصول عبر توجيه الإقراض إلى القطاعات المنتجة بدلاً من الاستثمار في الديون السيادية غير الموثوقة.
استقطاب الودائع الجديدة
أما على صعيد القاعدة التمويلية، فيعتبر عكوش أن استعادة النشاط المصرفي تتطلب جذب ودائع جديدة عبر طرح منتجات مصرفية أكثر جاذبية، مثل الودائع ذات العوائد المرتبطة بالاقتصاد المنتج، إضافة إلى استقطاب تمويل خارجي من مؤسسات دولية وصناديق استثمارية مهتمة بالسوق اللبنانية.
ويؤكد أن نجاح سياسة الإقراض لا يعتمد على المصارف وحسب، بل على تحفيز الاقتصاد الحقيقي، من خلال دعم القطاعات القادرة على سداد القروض مثل الزراعة، الصناعة والتكنولوجيا، وتحسين بيئة الأعمال لجذب الاستثمارات وزيادة فرص التوظيف، ما يعزز الطلب على القروض بصورة صحية ومستدامة.
إصلاح السياسات النقدية والمالية
السياسات النقدية والمالية تحتاج إلى إصلاح جذري، يبدأ بتوحيد سعر الصرف، وإعادة هيكلة العلاقة بين المصرف المركزي والمصارف التجارية، إلى جانب تخفيف الاعتماد على التمويل المصرفي للعجز الحكومي، واعتماد سياسات مالية أكثر استدامة، إضافة إلى إعادة النظر في هيكلة الفوائد لجعل الإقراض أكثر تنافسية ومناسباً للشركات والأفراد، بحسب عكوش، الذي يلفت إلى ضرورة التركيز على تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها العمود الفقري لأي انتعاش اقتصادي، مع تطبيق معايير صارمة لتقييم مخاطر الإقراض، لتفادي الأخطاء التي أدت إلى الأزمات السابقة.
وينبّه على أن “عودة الاقراض لن تكون سهلة، لكنها ممكنة إذا تمت معالجة جذور الأزمة، وليس نتائجها فقط”. فالقطاع المصرفي اللبناني يواجه اليوم مفترق طرق، فإما أن يتحول إلى جزء من الحل، أو يبقى عالقاً في دوامة الأزمة.
عمر عبد الباقي- لبنان الكبير