لبنان يضمّ أكبر عدد من المعوقين بصرياً بعد جريمة «البايجر»: حياة المكفوفين صعبة جداً

مئات المعوّقين بصرياً جراء جريمة تفجيرات «البايجر» في 17 أيلول الماضي (بينهم رجال ونساء وأطفال) التحقوا بما بين 15 و17 ألف شخص معوّق بصرياً في لبنان، أو بالحد الأدنى بثمانية آلاف يحملون بطاقة إعاقة بصرية، بحسب تقديرات الناشط في مجال الإعاقة إبراهيم عبدالله، وهو «تحدّ كبير أمام المجتمع اللبناني الذي يكاد يضمّ أكبر عدد من المكفوفين في العالم قياساً بعدد السكان»، وفق إدارة «مؤسسة الجرحى» التابعة لحزب الله. ولا ينبع التحدّي فعلياً من ضخامة العدد، بل من عدم تهيئة أدنى شروط الحماية الاجتماعية. لذلك يسأل المكفوفون الجدد المكفوفين القدامى: كيف يعيشون؟ كيف يعملون؟ كيف يستخدمون التكنولوجيا؟ ليكتشفوا من أول الطريق أنّ «الحياة صعبة جداً في لبنان»، والمسار طويل للوصول إلى مجتمع يحترم كرامة المعوّق وحقوقه ويساعده على العيش باستقلالية.

ويمكن تصنيف واقع الأشخاص المعوّقين بصرياً بحسب أوضاعهم المادية والاجتماعية والثقافية، أو بحسب حظوظهم وقدرتهم على فرض شخصيتهم وكفاءاتهم على المجتمع. لذلك قد تجد أحدهم يحمل شهادات جامعية ويتخصّص خارج البلاد ولديه وظيفة ومركز اجتماعي، وآخر حبيس المنزل ومحروم من أدنى حقوقه. ويرتبط ذلك، بحسب مدير جمعية «الشبيبة المكفوفين» عامر مكارم بـ«أزمة ثقافية حول الإعاقة تصيب المجتمع شعباً ومسؤولين، تصوّر لهم أن دورهم تجاه المعوّقين ينحصر بإنشاء مؤسسات للرعاية والتأهيل تتولى كل أمورهم وانتهى الموضوع، ولا يهمّ أن تصادر حريتهم داخل هذه المؤسسات التي تحتكر تقديم الخدمات المجانية، أو يُحرم كثيرون من الخدمات لأسباب جغرافية تتعلق ببعد المؤسسات عن مكان سكنهم وتمركزها في المدن، أو ثقافية تحرم غالباً الفتيات من المبيت في مؤسسات خارج المنزل».

لا تكييف ولا تأهيل مهنياً
يبقى التحدي الأكبر والأصعب أمام المكفوفين هو تأمين فرصة عمل، «فرغم ارتفاع نسبة المثقّفين والمتعلّمين الجامعيين المكفوفين مقارنة بذوي الإعاقات الأخرى، لا يزال معدّل البطالة في صفوفهم مرتفعاً جداً»، كما يقول عبدالله. وهنا يجدر السّؤال: ما هي المهن التي تتناسب مع وضع الكفيف؟ وأيّ مهن يمكن تكييفها لتتناسب مع وضعه؟ وأيّ من هذه المهن يمكن لسوق العمل استيعابها؟ ومَن المسؤول عن تكييف مكان العمل وتأهيل الموظف الكفيف؟

الإجابة عن السّؤال الأخير كما تُترجم في الواقع هي الشخص المعوّق نفسه. نويل تيان، مثلاً، شابة كفيفة أمّنت التكنولوجيا التي تحتاج إليها لتعمل في سنترال وزارة المالية، بعدما «شعرت بأنّ أصحاب العمل غير مستعدّين لتوفير أدنى شروط البيئة الدامجة، ويرفضوننا لمجرد معرفة إعاقتنا حتى قبل التعرف إلينا واختبار قدراتنا». لكن، غالباً ما تكون هذه الأجهزة التكنولوجية مرتفعة الكلفة وليست في متناول الجميع، لذلك «تقع المسؤولية على عاتق الدولة وأصحاب العمل»، وفق دراسة أعدّها عبدالله حول الحق في العمل للأشخاص المعوّقين.

غالبية «المدارس الدامجة» غير دامجة فعلاً وتؤمّن معلمة ظل تقف أحياناً حجر عثرة في وجه استقلالية الطالب

وحول المهن المناسبة للمكفوفين، يقول مكارم إنّ «90% من المكفوفين لا يستطيعون الاستمرار بالمهن نفسها التي كانوا يمارسونها قبل الإعاقة». فعلى سبيل المثال، تسمح الإعاقة البصرية، بحسب المتابعين، بالعمل الاجتماعي، الترجمة، العلاج الفيزيائي، التدليك، الصحافة في فروع معينة مثل الكتابة والتوثيق والتحرير، التعليم الجامعي وليس المدرسي، المحاماة. وبعد دراسة سوق العمل وتوجيه المكفوفين إلى المهن المناسبة، لا بدّ من إعادة تأهيل المعوّقين مهنياً، وهو مصطلح غريب في لبنان شأنه شأن المؤسسة الوطنية للاستخدام التابعة لوزارة العمل والمولجة، بحسب القانون 220/2000 لحقوق الأشخاص المعوّقين، إعادة التأهيل وتوجيه المعوّقين إلى سوق العمل، من دون رصد ميزانية لعمل هذه المؤسسة.

«تحوك» جمعية «الشبيبة للمكفوفين» برنامجاً لإعادة التأهيل من خلال مقاربتين، «الأولى تقوم على تنمية المهارات العامة التي يحتاج إليها الكفيف كمهارات الكمبيوتر والتواصل والمهارات اللغوية، والثانية ترتبط بتدريب الكفيف داخل مكان العمل، بحسب تخصّصه المهني، ما يؤمّن تهيئته للعمل واختبار ما يملكه من كفايات وقدرات عند التقدّم إلى وظيفة». أما كوتا العمل للمعوّقين المنصوص عليها في القانون، وعدا أنها ظلّت حبراً على ورق، فقد «صيغت بطريقة عقابية، فيما المطلوب العمل على توعية المؤسسات حول أهمية التنوع من أجل سمعتها»، كما يقول مكارم.

المدارس «الدامجة»

تُجمِع جمعيات الإعاقة على أنّ التلميذ الكفيف يمكنه أن يتابع تعليمه في أي مدرسة رسمية أو خاصة، وأنّ تكييف المدارس لحالته أمر سهل، و«أقلّ كلفة بنسبة 40% من الكلفة السنوية للتعليم والإيواء في مؤسسات الرعاية»، وفق تجربة مكارم في تأهيل المدارس قبل 25 سنة بدعم من المنظمات الدولية. لكنّ الحال اليوم أنّ غالبية «المدارس الدامجة» غير دامجة فعلاً، من حيث البرامج والأدوات والطاقم التعليمي، والفرق الوحيد بينها وبين المدارس الأخرى أنها تؤمّن معلمة الظل التي تقف أحياناً حجر عثرة في وجه استقلالية الطالب، كما أنّ هذا «الدمج» يضاعف الأقساط على الأهالي، «فمقابل 3 آلاف دولار كأقساط عادية، يرتفع قسط طلاب الدمج إلى 7 آلاف دولار في المدرسة نفسها»، بحسب عبدالله.

وتتحدّث مصادر وزارة التربية عن «تجهيز 117 مدرسة دامجة للاحتياجات التربوية المختلفة، التحدي الوحيد أمامها هو دمج ذوي الإعاقات الذهنية، أما ذوو الإعاقات البصرية فيمكن دمجهم في جميع المدارس الرسمية الـ 1200 نظراً إلى سهولة تجهيزها، وسبق أن أمّنّا تعليم طالبة عبر نظام «البريل»، بعد أن درّبناها وطبعنا لها الكتب بدعم من إحدى الجمعيات». وهي خطوة إيجابية في سبيل الدمج الكليّ، وإن كانت بحاجة إلى تقييم جدّي أولاً للتأكد من استقبال هذه المدارس الأشخاص المعوّقين، إذ يروي مكارم عن «تلميذ معوّق حركياً رفضت إحدى المدارس المُدرجة في لائحة الدمج استقباله، ولم يتغيّر الوضع بعد مراجعة وزارة التربية». فضلاً عن ضرورة دراسة مدى تكييف هذه المدارس للإعاقات المتنوعة وسط اتهامها من ناشطين بأنها «موجهة للصعوبات التعلمية فقط»، وإن كان الدمج يشمل النظام الداخلي وشروط القبول وأساليب الأساتذة.

التحايل بالقانون

صحّياً، يحتاج جزء كبير من المكفوفين إلى أدوية دائمة لعلاج ارتفاع ضغط العين، عدا «القطرات». لكنّ المشرّع تحايل عليهم عندما ذكر في المادة 27 من القانون 220 (ودون الحصر) الخدمات الصحية التي يحق لهم الحصول عليها، وهي سلة واسعة من الفحوصات المخبرية والأدوية والعلاج التأهيلي… لا يحصل المعوّق على أيّ منها لأنها لم تُستكمل بمراسيم تطبيقية تحدد الخدمات الصحية المغطاة، والجهة التي ستتولى تغطيتها. أما المادة 28 التي تمنحهم تغطية شاملة في دخول المستشفى، فغير مؤثّرة كون أي مواطن لا يستفيد من الصناديق الضامنة يمكنه أن يحصل على تغطية بنسبة 85% من وزارة الصحة.

وبقيت مخططات القانون 220 التفصيلية لضمان حقوق المعوّقين في بيئة مؤهلة ووسائل نقل دامجة حبراً على ورق، إذ تستخدم فئة قليلة النقل العام بسبب الإذلال والاستغلال اللذين يتعرّضون لهما، مثل أخذ بدلات مضاعفة، وعدم توصيلهم إلى وجهتهم الفعلية، والتعرض لسوء المعاملة والتحرش الجنسي، وغيرها. ومن يملك ترف تأمين سائق خاص، «يخسر بالحد الأدنى 40% من راتبه، وأعرف فتاة لا يبقى من راتبها الشهري غير 200 ألف ليرة بسبب كلفة النقل المرتفعة التي تتكبّدها وحتى لا تبقى في البيت»، كما ينقل عبدالله.

وأخيراً، سواء كانت العلّة في القانون أو بالإرادة السياسية لتطبيقه، لا بدّ من صياغة قانون جديد يحقق الدمج والمساواة للأشخاص المعوّقين عموماً وللمكفوفين خصوصاً، بما يتناسب مع روح «الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص المعوّقين» التي صادق عليها لبنان ونشر مرسوم إبرامها في الجريدة الرسمية في 9 شباط 2023، على أن تشارك في صياغته الوزارات المختلفة وينتهي «احتكار» وزارة الشؤون الاجتماعية لجميع قضايا المعوّقين.

زينب حمود- الاخبار

مقالات ذات صلة