مشهدية «المكتب البيضاوي»: مستقبل سوداوي لغزة والضفة والآتي أعظم

منذ أن فاز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية ارتبك العالم بأسره، خصوماً وحلفاء. فما إن دخل البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير، وبدأ منذ اليوم الأول من ولايته توقيع أوامره التنفيذية، حتى باتت الدول على الضفّتين تشعر بأنها مكشوفة ولا قدرة لها على قراءة ما يدور في عقل الرجل. يريدُ ضمّ كندا باستخدام القوة الاقتصادية، ويريد استعادة السيطرة على قناة بنما، وغيَّر اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، وطوَّع المكسيك من خلال سلاح الرسوم الجمركية.
كان المشهد في المكتب البيضاوي يوم الجمعة الماضي 28 شباط/فبراير أقرب إلى مشهد هوليوودي بين رئيسين اختبرا عالم التمثيل. رئيس أعظم دولة ونائبه ينقضّان على رئيس حليف أمام عدسات الكاميرات في نقل مباشر. بدا أن المكتب البيضاوي تحوَّل إلى مسرح مهيَّأ لعروض متعددة. سقط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في فخ الاستدراج إلى الإحراج مع غياب لغة التخاطب الدبلوماسي.
لم يخلُ اللقاء مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر من بعض الحرج المضبوط. ولم يكن حال اللقاء مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أفضل بكثير من الحال مع زيلينسكي، لولا أن الرئيس الفرنسي نجح في التحلّي بالقدر الكبير من ضبط النفس والدبلوماسية أمام عدسات الكاميرات. وهو ما فعله من قبله العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني. كان التوتر والانزعاج والخيبة والقلق ظاهرين بقوة على وجه الملك، إنما نجح بخبرته في عدم الانجرار إلى حيث يريد ترامب، الذي كان أعلن عن خطته بتحويل قطاع غزة إلى «ريفييرا الشرق» وقال إن على مصر والأردن استقبال الغزاويين لتطبيق تلك الخطة. يومها قفز الملك عبدالله بلغته الدبلوماسية عن كلام ترامب للحديث عن «خطة مصرية» يتم إعدادها لمعالجة مسألة غزة. وربما اليوم، يمكن توقُّع ما تفاداه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من مواقف مشابهة لتلك التي شهدها المكتب البيضاوي، بفعل تأجيل زيارته إلى البيت الأبيض التي كانت مقررة في 18 شباط/فبراير إلى أجل غير مسمى. وحده لقاء ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان مغايراً في روحيته، حيث الابتسامات والفرح ملؤوا وجوه الحاضرين. لم يقتصر ترامب على المحاباة لنتنياهو، بل تمَوضَع إلى جانب اليمين المتطرِّف في ما يتعلق بمستقبل إسرائيل.
وعليه، كيف يمكن التنبؤ بما سيكون عليه مستقبل غزة والضفة الغربية في زمن ترامب؟ هي سنوات أربع، لكنها سنوات مصيرية تأتي مع تحولات كبرى. أوروبا قلقة وخائفة تبحث عن كيفية صون أمنها من مخططات الحليف الأمريكي، والشرق الأوسط يُعاد رسم خرائطه على وَقْع المصالح الإسرائيلية على حساب الحلفاء.
يخرج ترامب ليُحدِّد ساعة الصفر لحركة «حماس» لإطلاق جميع الرهائن لديها وإلا سيتم فتح أبواب الجحيم عليها. يأتي طلبه خلافًا لما نصَّ عليه اتفاق وقف إطلاق النار من مراحل، وهو الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه برعاية أمريكية-قطرية – مصرية. يُقدِّم رسائل الدعم الواحدة تلو الأخرى، ويترك الأمر بيد إسرائيل لتفعل ما تراه مناسباً لها. اليوم مع انتهاء المرحلة الأولى، تسعى إسرائيل إلى تمديدها لتأمين إطلاق مزيد من رهائن المرحلة الثانية من دون الحاجة إلى الدخول بترتيبات هذه المرحلة التي يريد نتنياهو أن يتفاداها لمنع ائتلافه من التفكك.
حتى الساعة لم يطوِ ترامب خطة تحويل غزة إلى منتجع سياحي مترافقاً مع نقل الغزاويين إلى الدول المحيطة، إنما يعطي الحلفاء العرب فرصة تقديم خطة بديلة لمستقبل غزة، كما قال وزير خارجيته ماركو روبيو، مشيراً إلى «أن أي خطة تسمح لحماس بالبقاء في القطاع ستكون إشكالية لأن إسرائيل لن تتسامح معها، مما يُعيد الوضع فعلياً إلى نقطة البداية». تتجه الأنظار في الرابع من مارس/آذار إلى القمة العربية الطارئة في القاهرة، حيث يُفترض بالعرب أن يخرجوا بموقفٍ موحدٍ من «الرؤية المصرية» بخصوص قطاع غزة بوصفها خطة عربية بديلة.
ولكن، فيما الإيحاء الأمريكي بمنح الفرصة للحلفاء العرب بطرح البدائل من أجل تحقيق السلام، تتسارع الاندفاعة الأمريكية حيال دعم إسرائيل واستكمال مشروعها المتكئ على البُعد الديني التوراتي. بالأمس خرجت الخارجية الأمريكية لتعلن عن الموافقة على إرسال حزمة جديدة من المساعدات العسكرية لإسرائيل، في الوقت الذي كان ترامب يؤكد أنه لن يمنح أوكرانيا مزيداً من السلاح ولن يُقدِّم لها ضمانات في حال انتهاك روسيا لاتفاق وقف الحرب. وفي اليوم نفسه، يُصدر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، وهو الجمهوري براين ماست، مذكرة داخلية لموظفي اللجنة باستبدال تعبير الضفة الغربية المحتلة باسمها العبري «يهودا والسامرة». ويعزو ذلك – وفق المذكرة – «إلى اعترافنا برباطنا غير القابل للكسر مع إسرائيل والحق المتأصل للشعب اليهودي في وطنه، وإلى الجذور اليهودية في هذه المنطقة التي تمتد لقرون. وبصفتنا ممثلين للشعب الأمريكي، يجب علينا أن نقوم بدورنا لوقف هذا المد المذموم من معاداة السامية والاعتراف بحق إسرائيل في مهد الحضارة اليهودية».
يُعوِّل كثيرون على التضامن العربي ونجاح قمة القاهرة الطارئة في تعديل المشهد، لكن العارفين بعقل ترامب يدركون جيداً أنه لا يتراجع عما يطرحه إلا إذا كان الطرح المقابل يوفِّر له مكاسب سياسية واقتصادية واستراتيجية أكبر. هو قال إنه لن يفرض خطته لغزة بانتظار ما سيُعرض عليه في هذا السياق؛ هل هي خطة أوسع تفتح الباب أمام إعادة مفهوم «حل الدولتين»، الغائب كلياً عن أدبيات ترامب، أم ترتيب ما لدولة فلسطينية تؤمِّن الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني ويمكنها أن تحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مرحلياً أو نهائياً مقابل طموحات ترامب باستئناف الاتفاقات الإبراهيمية؟ من الصعب في خضم المتغيرات الكبرى تَوقّع مناخات إيجابية. فما يجري إعداده للضفة الغربية ينذر بحجم الكارثة المنتظرة والتي ستضع الأردن ومصر في عين العاصفة المفتوحة على احتمالات شتى قد تُعيد خلط الأوراق في المنطقة وتُدخلها في دوامة جديدة من العنف لا تقتصر على ما شهدته حقبة ما بعد «طوفان الأقصى».
يعد لافتاً الكلام الذي بدأ يتسرَّب من أن لا يكون ضم الضفة الغربية هو هدف أمريكي بحد ذاته بل ورقة ترضية لليمين الإسرائيلي تفتح الباب أمام قبول إسرائيل بذهاب واشنطن إلى اتفاق مع إيران لا يزال نتنياهو يعارضه. إنها صورة قاتمة على ما ينتظر الفلسطينيين والمنطقة برمتها.
رولا موفق- القدس العربي