تخوّف رسمي كبير: 4 “طبقات” إسرائيلية لاستدراج سوريا ولبنان نحو التطبيع؟

بين مشهد عرض القوّة الذي قام به “الحزب” خلال تشييع نصرالله، والذي رأى فيه نافيه درومي في صحيفة يديعوت أحرونوت “استعراضاً للهزيمة”، وبين مشهد عودة جثامين المخطوفين الذي حمل معه بحسب ألون عيدان في هآرتس مكوّنات الهزيمة التي ترافق ملايين الإسرائيليين، يُستكمل النقاش بين النخبة الإسرائيلية في الرؤية الأمنيّة للدفاع عن الحدود الحالية، التي لم تعد برأي قادة أمنيّين كبار قادرة على توفير متطلّبات الأمن الإسرائيلي.
إسرائيل الغاضبة، التي تدعو إلى الانتقام الجماعي من الفلسطينيين على خلفيّة المشهديّات التي ترافق تسليم الرهائن، حاضرة بعمق في هذا النقاش، إذ يبدو أنّه حُسم باتّجاه إقامة خطوط دفاعية متعدّدة الطبقات تضمّ “مناطق عازلة” في غزة وجنوب لبنان وجنوب سوريا. بالطبع من المهمّ لنا معرفة التغييرات التي تطال النظرية الأمنيّة في إسرائيل بهدف التفكير في كيفيّة التعامل معها. لكنّ السؤال الأساسي يبقى في معرفة هل كانت وظيفة المناطق العازلة، أو النقاط الخمس التي بقي فيها الجيش الإسرائيلي في لبنان، دفاعية فقط كما يدّعي الإسرائيليون، أم تتعدّى الدفاع لتكون وسيلة ضغط على لبنان للذهاب إلى التطبيع؟
حدود خطرة وتهديد مباشر
كان الاعتقاد السائد في لبنان أنّ اتّفاق وقف الأعمال العدائية الذي وُقّع بين لبنان وإسرائيل بموافقة “الحزب” سيؤدّي تلقائياً إلى فصل لبنان عن غزة، ثمّ سيؤسّس لتبنّي سياسة خارجية تجعل من لبنان بلداً حياديّاً. لكنّ الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تضع لبنان وحدوده في وعاء واحد مع غزة وسوريا، إذ تُصنّف الحدود الثلاثة معها بأنّها حدود خطرة وتمثّل تهديداً مباشراً.
في إطار الاستراتيجية الجديدة، كتب الضابط الإسرائيلي في الاحتياط إيرن أورتال في مقالة بعنوان “معركة السابع من أكتوبر هي بداية المعركة فقط”، نُشرت في مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية: “ستركّز إسرائيل في السنوات المقبلة على إنشاء مناطق عازلة على طول الحدود، إلى جانب حرب استنزاف مستمرّة في المناطق الحدودية”.
وكتب رون بن يشاي عن هذه الاستراتيجية في صحيفة يديعوت أحرونوت في مقالة بعنوان “أحد دروس 7 أكتوبر، سياسة دفاعية جديدة عن الحدود متعدّدة الطبقات”، أنّ نتنياهو كشف لأوّل مرّة في حفل تخريج الضبّاط عن استراتيجية إسرائيل الجديدة، حين طالب “بالإخلاء الكامل لجنوب سورية من وجود قوّات النظام الجديد”، وكشف “الجزء الناقص في البازل عندما أعلن مطالبته بأن يكون جنوب غرب سوريا وجنوبي دمشق منزوعَيْ السلاح”. ولفت بن يشاي في مقالته إلى أنّ أهداف هذه الاستراتيجية هي ضمان أمن سكّان المستوطنات القريبة من الحدود في الجنوب والشمال وعلى الحدود مع سوريا. وبرأيه هذه الاستراتيجية تختلف بين الحدود مع الدول التي وقّعت معها إسرائيل اتّفاقات سلام، مثل مصر والأردن، وبين الحدود مع الدول التي تشكّل خطراً مباشراً وتهديداً فعليّاً للمواطنين الإسرائيليين والمستوطنات المحاذية للحدود وتلك البعيدة عنها مسافة كيلومترات.
منظومة دفاعيّة متعدّدة الطّبقات
شرح رون بن يشاي في مقالته هذه المنظومة على الشكل التالي:
– الطبقة الأولى: ستكون المنظومة الدفاعية الأولى في داخل الأراضي الإسرائيلية، وستضمّ مواقع ثابتة بحيث تفصل منظومة المواقع والعوائق بشكل مادّي بين المستوطنات الحدودية وبين القرى الشيعية ومراكز التنظيمات المحتملة التابعة لـ”الحزب” في الجنوب اللبناني. أمّا في قطاع غزة، فستكون هناك منظومة ذات ميزات مشابهة تفصل بين أراضي القطاع وبين مستوطنات غلاف غزة. بالنسبة إلى الحدود مع سورية، وفي هضبة الجولان السورية، هناك عوائق ومواقع دفاعية مجهّزة بالأفراد، وهذا كلّه موجود على الأراضي التي تخضع لسيطرة إسرائيل ويسمّيها بن يشاي “أراضيهم”.
– الطبقة الثانية: شرح الكاتب بأنّ منظومة الدفاع الثانية في هذه القطاعات الثلاثة ستكون في “داخل أراضي العدوّ”، وستشكّل ركيزة “دفاع متقدّم”، مثل تلك التي كانت موجودة في المنطقة الأمنيّة في لبنان، من سنة 1984 حتى انسحاب الجيش الإسرائيلي و”جيش لبنان الجنوبي” في أيار 2000. وأضاف: “أمّا على الحدود مع لبنان، فالدفاع المتقدّم الآن هي المواقع الخمسة الموجودة في مناطق مُشرفة على طول الحدود، والتي من المفترض أن تنسحب منها إسرائيل عندما يصبح الجنوب اللبناني منطقة لا تشكّل خطراً على الأراضي الإسرائيلية. وبالنسبة إلى هضبة الجولان، المنطقة الفاصلة التي دخلتها القوات الإسرائيلية تشكّل طبقة الدفاع المتقدّمة عن مستوطنات الجولان”. وتابع بن يشاي أنّ “للجيش الإسرائيلي في هذه المنطقة علاقات مع السكّان، ووجوده في جبل الشيخ السوري له قيمة استخبارية وعملانية مهمّة”.
– الطبقة الثالثة تتعلّق بنزع السلاح من هذه المناطق التي تشكّل تهديداً لإسرائيل. وفي هذا الإطار، كتب بن يشاي: “في قطاع غزة، أُعلن أنّ أيّ تسوية بشأن إنهاء الحرب يجب أن تتضمّن، ليس فقط إعادة كلّ المخطوفين وتفكيك سلطة “حماس” المدنية والعسكرية، بل أيضاً نزع سلاح القطاع”. وتابع أنّ “هذا ينطبق على الجنوب اللبناني أيضاً. إذ تطالب إسرائيل بأن تكون منطقة الجنوب اللبناني، من جنوب الليطاني وشرقه، منزوعة القذائف والصواريخ بمختلف أنواعها والراجمات والمسيّرات الكبيرة. وتطالب أيضاً بعدم السماح لمسلّحي “الحزب” بالتجوّل في المنطقة بسلاحهم الخفيف”. وبرأي الكاتب “من المفترض أن يفرض الجيش اللبناني ذلك، لكن إذا لم ينجح في القيام بهذه المهمّة، فإنّ إسرائيل هي التي ستفعل ذلك”.
أمّا في سورية فكتب بن يشاي: “أعلن رئيس الحكومة بصورة واضحة أنّه يطالب بنزع السلاح من الجولان السوري إلى الحدود مع الأردن، جنوباً وشرقاً، وحتى المعبر نحو منطقة السويداء. في هذه المنطقة، يطالب نتنياهو بعدم وجود التنظيم الجهادي الذي يسيطر على سورية حالياً، وهو نسخة عصرية من تنظيم القاعدة”.
– الطبقة الرابعة: تعتمد العقيدة الدفاعية عن الحدود على طبقة رابعة، وهي القدرة الاستخبارية والجوّية لدولة إسرائيل. ويعتقد الأمنيّون الإسرائيليون أنّ أحد دروس 7 أكتوبر 2023، هو ضرورة وجود سلاح الجوّ في الميدان، وأن يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الدفاع الجديد عن الحدود.
ترتيبات أمنيّة … ونزع السّلاح
شرح بن يشاي في مقالته أنّ إسرائيل أوضحت لتركيا وللحكّام الجدد في دمشق، من خلال وسطاء، أنّها لا تنوي البقاء بصورة دائمة في المنطقة العازلة وإقامة دفاع متقدّم إذا جرى التوصّل إلى ترتيبات أمنيّة ثابتة، ربّما يكون لتركيا دور فيها. وتابع: “في ما يخصّ لبنان، عملياً، ليس من المفترض أن يستمرّ الأسلوب الحالي، وقد تسحب إسرائيل منظومة الدفاع المتقدّمة، أي المواقع المُشرفة ونقاط المراقبة، إذا تبيّن أنّ الجيش اللبناني بسط السيطرة على المنطقة الواقعة في جنوبي الليطاني بصورة فعّالة وثابتة وجذرية”.
أمّا بالنسبة لـ”الحزب” فأكّد بن يشاي أنّ إسرائيل تريد نزع سلاحه بصورة كاملة، على الأقلّ في جنوب الليطاني، وأنّ هذه النظرية الدفاعية الشاملة تريد إسرائيل تحقيقها وتعتبر أنّ وجود الإدارة الأميركية الحالية بقيادة ترامب تمثّل فرصة ذهبية للقيام بذلك.
في الخلاصة، النقاش في إسرائيل بين النخبة العسكرية يركّز على الدوافع الأمنيّة، لكنّ ما يجول في رأس نتنياهو وعدد من النخبة السياسية في إسرائيل هو استدراج سوريا ولبنان إلى قطار التطبيع. وهناك تخوّف رسمي كبير في لبنان من أن تستخدم إسرائيل النقاط الخمس، التي بقي فيها الجيش الإسرائيلي، وفلسفة المنظومة الدفاعية الجديدة، أداةَ ضغط لإلحاق لبنان بمسار التطبيع. وقد جاءت تصريحات مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط ستيف بيتكوف، التي قال فيها إنّ “هناك تغييرات عميقة تحدث، ويمكن للبنان وسوريا أن يحشدا جهودهما وينضمّا إلى اتّفاقات أبراهام للسلام”، لتؤكّد هذه المخاوف. الأشهر المقبلة ستكشف المستور.
وليد صافي-اساس