انه المأزق الكبير: على أي لغم يدوس العهد الجديد؟

انه وقت الحساب بالنسبة الى الأميركيين، ووقت الحصاد بالنسبة الى الاسرائيليين، ووقت القرارات المصيرية بالنسبة الى الايرانيين.
هذا هو المشهد العام الذي يقف لبنان قبالته من دون أي قدرة على الاعتراض خوفاً من جموح دونالد ترامب وجبروت بنيامين نتنياهو، ولا أي رغبة في التسليم بما يملى عليه خوفاً من “حزب الله” أو من أي مغامرة متسرعة أو متهورة قد تجر البلاد اما الى حرب في الجنوب واما الى حرب في بيروت.
انه حقل الألغام الذي يقف فوقه العهد الجديد بعدما أدرك الرئيسان جوزاف عون ونواف سلام، أن الزمن الذي كان يتلطى خلفه لبنان للتهرب من القرارات الحازمة قد ولى، وأن الوقت حان، أقله بالنسبة الى الأميركيين، ليلعب اللبنانيون دور السيد لا المسود على أرضه، بعدما تمكن المحور الأميركي – الاسرائيلي من رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، ومن تحرير الكيان اللبناني من حصارين ضاغطين، أي حصار “حزب الله” في الداخل وحصار الثنائي السوري – الايراني في الخارج.
من هنا، يمكن فهم الأسباب التي نقلت الأميركيين من دور “كاسحة الألغام” في لبنان الى دور الآمر المطلق أو على الأقل دور المنتصر الذي يريد فرض شروطه أو دور التاجر الذي يريد تحصيل أرباحه.
وشروط ترامب في هذه المرحلة هي واحدة من اثنتين: اما تحريك الجيش اللبناني لنزع سلاح “حزب الله” سواء من جنوب الليطاني أو من كل لبنان اذا أراد فعلاً سحب الجيش الاسرائيلي من الجنوب والدخول في عصر السلام في الشرق الأوسط، واما منح نتنياهو الضوء الأخضر للقضاء على آخر عنصر مسلح في لبنان وتدمير آخر حجر قائم فيه.
ويتردد في واشنطن أن على لبنان الرسمي التحرك سريعاً والامتناع عن هدر مزيد من الوقت، معتبرة أن البطء في نشر الجيش جنوباً، وفي تشكيل الحكومة أعطى ايران فرصة لالتقاط أنفاسها والعبور الى لبنان في حقائب المال ووفود الممانعين الذين دخلوه بلباس المشيّعين في جنازة حسن نصر الله لا لباس الشيعة المسلحين.
ويتردد أيضاً أن واشنطن ليست مستعدة للانتظار أكثر ولا لتفهم التركيبة اللبنانية المعقدة وحساسياتها التاريخية، معتبرة أن هذه المعادلة سقطت عندما سقط “حزب الله” عسكرياً، وعندما وجد نفسه معزولاً في الداخل من دون حلفاء ومن دون قيادة وازنة وحتى من دون خريطة طريق تقوده اما الى مواصلة الحرب مع اسرائيل وهو أمر لم يعد وارداً، واما الى حرب أهلية وهو أمر أقرب الى الانتحار منه الى الانفراج، واما الى حزب سياسي مجرد من قوة التحكم والهيمنة وهو أمر لم يعتد عليه بعد.
وأكثر من ذلك، يعتبر الأميركيون أن نزع سلاح الحزب يتطلب قراراً جريئاً من الحكومة اللبنانية يقوم على واحد من خيارين: اما التفاوض معه على نزع الأسلحة الصاروخية والثقيلة التي تهدد أمن اسرائيل، واما حمله على القبول بتطوير هدنة العام ١٩٤٩ وتحويلها الى تطبيع ألمح اليه الموفد الأميركي الخاص الى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
أكثر من ذلك أيضاً، يحاول ترامب إقناع لبنان والعرب وايران بتبني خيار السلام مع اسرائيل، معتبراً أن الحرب التي شهدتها المنطقة أخيراً حسمت الخيار العسكري لمصلحة تل أبيب التي ثبتت حزامها الأمني على امتداد الخط القائم من لبنان الى سوريا والأردن وصولاً الى غزة ومصر، ووضعت جميع أطراف المنطقة أمام خيارات صعبة تتفاوت بين حروب غير متكافئة وسلام لا بد منه، وخرائط أميركية جاهزة لتقسيم المنطقة وتحويلات الى دويلات أو امارات.
وما ساعد على تكريس هذه المعادلة أمران: الأول الخناق الذي تفرضه واشنطن حول عنق طهران المتوجسة من عقوبات أكثر قسوة ومن ضربات عسكرية تطاول طموحاتها النووية والصاروخية، لا سيما بعدما اقترب ترامب من استقطاب آخر حلفائها الكبار أي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتهالك لانهاء حربه الاستنزافية في أوكرانيا، والثاني نجاح اسرائيل في قطع الطريق على تركيا التي تحاول السيطرة على سوريا في عهد حليفها أحمد الشرع، والتخلص من “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) أي المجموعة العسكرية الكردية الأقوى في بلاد كالشام والمدعومة من أميركا وفرنسا وحتى من الدولة العبرية، لا بل القوة الكردية التي تلوح بالانفصال عن سوريا بعدما تجاهلها الحكم الجديد في دمشق بضغط من أنقرة.
ويتردد في دوائر تل أبيب، أن الأخيرة أبلغت الى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن أي محاولة للسيطرة على سوريا، ستدفع بقواتها نحو دمشق التي تبعد عنها ٢٠ كيلومتراً فقط حتى لو أدى الأمر الى مواجهة مباشرة بين الفريقين، مؤكدة أنها لم تتهالك للتخلص من ايران كي تفتح الطريق أمام تركيا التي ردت من خلال مساعدة ايران على نقل المال والسلاح الى “حزب الله” والتهديد “بتقطيع الجيش الاسرائيلي ارباً اربا”.
وسط هذا المشهد المعقد، يجد لبنان نفسه بين خيارات عدة لا يستطيع تبني أي منها، فهو غير مستعد لمواجهة “حزب الله”، وهو أمر أكده العماد جوزاف عون حتى عندما كان قائداً للجيش، وغير قادر على سحب اسرائيل من الجنوب قبل تطبيق القرار ١٥٥٩، وغير قادر على أي تطبيع مع إسرائيل من دون غطاء من محور الممانعة، وغير قادر على اعادة إعمار ما تهدم من دون تمويل خارجي غير متاح من دون ضوء أخضر أميركي، وغير قادر على بسط سلطة الجيش منفرداً على كل الأراضي اللبنانية من دون سلاح نوعي غير متوافر الا في الترسانات الأميركية.
انه المأزق الكبير الذي يستحيل الخروج منه بوسائل داخلية ما دام “حزب الله” خارج المصالحة المحلية وخارج الاعتراف بهزيمته العسكرية، وما دامت ايران ترى في لبنان متنفساً متاحاً يساعدها على خلط بعض الأوراق الثمينة، وما دام الحكم الجديد في بيروت يتخذ وضعية الجالس على ضفة النهر منتظراً مرور جثامين أعدائه.
في اختصار، يقف اللبنانيون أمام ثلاثة مفارق أساسية: أولاً أن يقتدي “حزب الله” بحركة “حماس” التي بدأت تتقبل فكرة التخلي عن السلاح والحكم معاً، وثانياً التعايش مع ما تبقى من بنادق الحزب في الداخل ودبابات اسرائيل على تلال الجنوب والتخلي عن الفرص المتاحة لدخول عصر الشرق الأوسط الجديد، وثالثاً تسليم أمرهم لأي قوة عسكرية قادرة على انجاز ما لم تتمكن من انجازه في الحرب السابقة.
ولعلّ ما قاله مصدر ديبلوماسي غربي عن حال لبنان الآن يختصر المشهد العام الى حد بعيد: لقد اعتاد لبنان هدر الوقت والفرص والاضطلاع بدور الطفل الذي يحتاج دائماً الى حاضنة أو مربية، وعندما بلغ سن الرشد كان قد فات الأوان.
وأضاف: يستطيع الرئيس جوزاف عون الانفتاح على السعودية ومصر وفرنسا وكل دول العالم، لكن أي حلول استراتيجية أو انفراجات اقتصادية لن تكون متاحة قبل ذوبان الدويلات في الدولة، وقبل التأكد من أن أموال المانحين ستصنع بلداً جديراً بالحياة وليس بلداً مباحاً للحيتان.
انطوني جعجع- لبنان الكبير