التشييع بين وهم القوة وحقيقة التراجع: الحزب يسعى للبقاء في ساحة باتت تضيق عليه!

لم يكن تشييع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، وخليفته هاشم صفي الدين، مجرد مناسبة جنائزية، بل كان مشهداً سياسياً حاول الحزب استثماره لترميم صورته وإعادة ترتيب أوراقه في الداخل والخارج. لكن رغم الحشود والشعارات، كشف الحدث عن ضعف الحزب وتراجعه الإقليمي، في ظل الضربات التي تلقاها من إسرائيل وتبدل موازين القوى في المنطقة.

قبل التشييع ظهر الحزب بشكل مأزوم، ومنذ اغتيال حسن نصرالله قبل خمسة أشهر، بدا “حزب الله” في حالة ارتباك غير مسبوقة. لم يتمكن من تنظيم تشييعه فوراً، بل احتاج إلى شهور من الترتيبات والوساطات لضمان عدم استهداف موكب التشييع من قبل إسرائيل. والتأخير لم يكن مجرد اعتبارات أمنية، بل كان انعكاساً لحالة الحزب المتراجعة، بحيث أصبح مكشوفاً وعاجزاً عن فرض قواعد الاشتباك كما كان يفعل سابقاً.

كعادة الجماعات المسلحة لاحظنا محاولات تقديس التشييع للتغطية على وضعية الحزب الضعيفة. وكان من الواضح أن الحزب أراد استغلال التشييع كاستفتاء شعبي لتأكيد استمراريته، وتصويره كحدث تاريخي يحمل رمزية دينية وسياسية كبرى.

وحمل خطاب نعيم قاسم رسائل تحدٍّ لإسرائيل، لكنه كشف في الوقت نفسه عن إدراك الحزب لحجم التغيرات التي طرأت على المشهد اللبناني، حيث تحدث عن ضرورة “تحمل الدولة مسؤولياتها”، وهو ما يُفهم منه قبول ضمني بواقع جديد قد يُفضي إلى انحسار دور الحزب التدريجي.

ورغم الحشود التي شاركت في التشييع، إلا أن الرسالة الإسرائيلية كانت واضحة: الطائرات الإسرائيلية لم تغادر الأجواء اللبنانية، وكأنها تقول إن الحزب لم يعد قادراً على منع الاختراقات أو فرض معادلة الردع كما في السابق.المرحلة التي تلي التشييع ستكون اختباراً صعباً لـ”حزب الله”. فلم يعد الحزب قادراً على فرض خياراته كما كان في السابق، حيث فشل في التحكم بانتخاب الرئيس اللبناني الجديد أو تشكيل الحكومة وفقاً لإرادته، والبيان الوزاري للحكومة لم يتضمن شرعنة سلاحه، وهو مؤشر على تراجع نفوذه داخل الدولة. أما في الجنوب، فانتشار الجيش اللبناني في بعض المناطق التي كانت تحت سيطرة الحزب يؤكد أن المعادلة الأمنية لم تعد كما كانت، وأن الحزب بات مقيداً في تحركاته العسكرية، حتى لو استمر في خطاب التصعيد.

ليس من الواقعية القول إن “حزب الله” انتهى بشكل كامل، لكنه بلا شك أصبح أضعف مما كان عليه. الحرب الأخيرة مع إسرائيل قضت على جزء كبير من قيادته العسكرية، وألحقت أضراراً جسيمة ببنيته التحتية، وجعلته مكشوفاً أمنياً. البيئة الشيعية التي طالما اعتمد عليها الحزب بدأت تتململ، في ظل الضغوط الاقتصادية وتراجع الخدمات، ما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة الحزب على الاستمرار في تقديم نفسه كمدافع عن الطائفة.أما إسرائيل، فقد حسمت قرارها بمنع عودة الحزب إلى سابق عهده، ونتنياهو أعلن صراحة أن الهدف القادم هو تفكيك الحزب، سواء عبر العمل العسكري أو من خلال الضغط السياسي والديبلوماسي على لبنان.

بعد التشييع سيدخل “حزب الله” في مرحلة جديدة ستتسم بالمزيد من الضغوط والتحديات، وقد يحاول استعادة بعض من زخمه عبر التصريحات الدرامية، لكنه يدرك أنه لم يعد يمتلك الحرية العسكرية والسياسية التي كان يتمتع بها في السابق.

لبنان أيضاً يواجه معضلة التعامل مع “حزب الله” في ظل المتغيرات الجديدة. فالحكومة، رغم محاولتها استعادة القرار السيادي، لا تزال عاجزة عن فرض سلطتها بشكل كامل، فيما إسرائيل تستغل الوضع لترسيخ أمر واقع جديد على الحدود، وقد يكون “حزب الله” قد استطاع حشد جماهيره في التشييع، لكنه لم ينجح في إخفاء حقيقة تراجعه.

المشهد الحالي يشير إلى أن الحزب لم يعد القوة التي كانت تملي شروطها على الداخل والخارج، بل أصبح مجرد أداة تسعى للبقاء في ساحة باتت تضيق عليه يوماً بعد يوم.

محمد فيصل الدوسري -النهار

مقالات ذات صلة