«حزب الله» يستعرض قوّته في جنازة قائده!

أقام «حزب الله»، الجماعة اللبنانية المسلحة المدعومة من إيران، تأبيناً ضخماً لقائده حسن نصر الله، الذي قُتِل على يَد إسرائيل في أيلول.
نظّم «حزب الله»، أمس الأحد، استعراضاً للقوة من خلال جنازة ضخمة وممتدة لقائده المغتال، حسن نصر الله، في حدث تأمل الجماعة المسلحة المدعومة من إيران أن يُنعش صورتها المتضرّرة في لبنان بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل.
توافد عشرات الآلاف من الأشخاص من جميع أنحاء لبنان والمنطقة إلى العاصمة بيروت لحضور المراسم، التي أُقيمت في ملعب رياضي كبير على أطراف المدينة. احتشد الآلاف داخل الساحة، بينما انتشر آخرون في الشوارع، حاملين صوَر نصر الله وملوّحين بأعلام «حزب الله» الكبيرة.
عندما دخلت شاحنة تحمل نعش نصر الله إلى الاستاد، انفجرت الحشود بالصراخ والنحيب بينما تردّد صوته – المقتطف من خطبه – عبر مُكبِّرات الصوت. ألقى البعض بالأوشحة نحو السيارة، وهُم يَمسحون دموعهم، بينما هتف آخرون: «لبيك يا نصر الله!».
واعتبر نعيم قاسم، القائد الحالي لـ«حزب الله»، في خطاب مُصوَّر عُرض في الاستاد: «هذا الحشد الهائل في لبنان هو تعبير عن الولاء للمقاومة. المقاومة تبقى وتظل موجودة، بغضّ النظر عمّا تعتقدونه. لا تُخطِئوا في تفسير صبرنا على أنّه ضُعف».
تأتي الجنازة بعد 5 أشهر من مقتل «نصر الله» على يَد إسرائيل في 27 أيلول، حين أسقطت 80 قنبلة خلال دقائق على مخبئه جنوب بيروت. باغتياله، قضت إسرائيل على زعيم حظِيَ بمكانة شبه أسطورية بين المسلمين الشيعة في لبنان، وقاد مقاومتهم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي لجنوب البلاد. كان مقتله إحدى اللحظات الفارقة في المواجهة بين وكلاء إيران وإسرائيل، وهي المواجهة التي خرج منها «حزب الله» ضعيفاً بشكل كبير.
في الأشهر التي تلت ذلك، تعرّض «حزب الله» إلى ضربات إسرائيلية عنيفة، وتلاشت قبضته الحديدية على السياسة اللبنانية، فألقى أكثرية اللبنانيِّين باللوم عليه في جرّ البلاد إلى واحدة من أكثر الحروب دموية ودماراً.
في تشرين الثاني، توصّل «حزب الله» وإسرائيل إلى وقف إطلاق النار، ممّا أجبر الحزب على الانسحاب من جنوب لبنان والتخلّي عن معاقله على الحدود مع إسرائيل. وبينما وافقت إسرائيل على الانسحاب من لبنان كجزء من الاتفاق، لا تزال قوّاتها متمركزة في بعض مناطق الجنوب اللبناني بعد انتهاء المهلة المحدّدة لذلك.
الآن، يقف لبنان عند مفترق طرق. بعد عقود من تعزيز نفوذه، دخل «حزب الله» الحرب كأقوى قوة سياسية وعسكرية في البلاد، لكنّه أصبح مجرّد ظل لما كان عليه.
هناك زخمٌ متزايدٌ بين معارضي «حزب الله» السياسيِّين داخل لبنان لاستعادة السلطة من الجماعة لأول مرّة منذ عقود. وقد تعهّد الرئيس اللبناني الجديد، جوزاف عون، بنزع سلاح «حزب الله» وإعادة احتكار القوة العسكرية للدولة.
الأسبوع الماضي، تبنّى مجلس الوزراء اللبناني المعيَّن حديثاً، بياناً سياسياً قوّضَ «حزب الله» أكثر، إذ نصّ على أنّ الدولة وحدها تملك الحق في الدفاع عن أراضي لبنان. كان هذا أول بيان سياسي منذ انتهاء الحرب الأهلية في 1990 لا يتضمّن حق اللبنانيِّين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي – وهي عبارة طالما استُخدمت لإضفاء الشرعية على وجود «حزب الله».
عكست جنازة نصر الله الصراع على السلطة الجاري في لبنان، فاستغلّ «حزب الله» الحدث كفرصة لإعادة تأكيد نفسه كقوة سياسية.
من خلال الحشود الضخمة في الشوارع التي أظهرت ولاءها لنصر الله، سعى الحزب إلى توجيه رسالة: على رغم من مقتل قادته، استنزاف موارده المالية، سقوط حليفه السوري بشار الأسد، وإضعاف داعمه الإيراني، فإنّ الجماعة باقية.
وأوضح مهنّد حاج علي، الزميل في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت: «الجنازة تمثل نقطة انطلاق. إنّه يحاول إعادة ابتكار نفسه» واستخدام وفاة نصر الله «كأداة تعبئة لحشد الناس حول قضيّته، التي تعرّضت إلى ضربة كبيرة».
كما شمل التأبين تكريم هاشم صفي الدين، الذي تولّى قيادة «حزب الله» فعلياً لمدة أسبوع بعد وفاة نصر الله، قبل أن يُقتَل بدوره على يَد إسرائيل.
وكان بين الحاضرين العديد مِمَّن سافروا من إيران والعراق واليمن، في تذكير بدور نصر الله الكبير في توحيد الشيعة عبر المنطقة ضدّ إسرائيل. أمّا القادمون من لبنان، فقضى بعضهم الليلة في الاستاد، متحمّلين البرد القارس لضمان مقعد لحضور المراسم.
وأكّدت رانيا رمال، محاسبة من جنوب لبنان دُمّر منزلها خلال الحرب التي استمرّت قرابة 14 شهراً بين «حزب الله» وإسرائيل: «كان يعني لي كل شيء. بيتي لم يَعُد موجوداً، لكنّي كنتُ أتمنّى لو أنّني ذهبتُ بدلاً من نصر الله».
الغائب الأبرز عن المراسم كان الرئيس جوزاف عون ورئيس الوزراء المعيَّن حديثاً، نواف سلام. أرسل كلاهما ممثلَين عنهما بدلاً من الحضور شخصياً – وهي خطوة سلّطت الضوء على جهودهما للنأي بنفسَيهما عن «حزب الله» بينما يسعيان للحصول على دعم مالي من الغرب.
في المقابل، عرضت إسرائيل استعراضاً خاصاً للقوة أمس، إذ حلّقت مقاتلاتها فوق بيروت ونفّذت غارات جوية على مناطق عدة في شرق وجنوب لبنان، مستهدفةً ما وصفه المسؤولون الإسرائيليّون بأنّه نشاط عسكري لـ»حزب الله».
وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، أنّ الغارات جاءت لتوجيه «رسالة واضحة» مفادها أنّ «كل مَن يُهدِّد بتدمير إسرائيل ويهاجمها، هذا سيكون مصيره».
اندلعت الحرب بين «حزب الله» وإسرائيل في تشرين الأول 2023 بعد أن بدأت الميليشيا اللبنانية بقصف مواقع عسكرية إسرائيلية تضامناً مع حليفتها الفلسطينية، «حماس»، في غزة.
وتصاعد النزاع بشكل حاد منذ أيلول الماضي، حين غزت القوات الإسرائيلية أجزاءً من جنوب لبنان وشنّت قصفاً مكثفاً على البلاد استمر شهرَين تقريباً قبل التوصّل إلى وقف إطلاق النار. داخل لبنان، كان يُنظر إلى «حزب الله» على نطاق واسع على أنّه تعرّض إلى هزيمة قاسية في الحرب.
واعتبر علي مرعي (34 عاماً)، سائق التوصيل في بيروت، أنّ «حزب الله جرّ البلد بأكمله إلى هذه الحرب لكنّه لم يكن قوياً بما يكفي لخوضها. الجنوب – أجمل جزء في البلاد – دُمِّر بسببه. كل مَن مات في الحرب، مات بسبب هذه الحرب التي تسبّب بها حزب الله».
يواجه الحزب الآن أسئلة صعبة من أنصاره حَول ما إذا كان بإمكانه توفير المليارات اللازمة لإعادة بناء البلدات والقرى التي دمّرتها الحرب.
سيكون هذا الدعم حاسماً لإحياء التأييد الشعبي للجماعة، خصوصاً بعد أن اهتزّت ثقة أنصاره بسبب الحرب. فبعد حربه الأخيرة مع إسرائيل عام 2006، استجاب «حزب الله» على الفور بمنح مساعدات نقدية بتمويل إيراني وخليجي. لكن هذه المرة، كان الردّ أبطأ.
فَقَدت الجماعة طريقها الرئيسي لتلقّي الأموال من إيران عبر سوريا، بعد أن أُطيح بنظام الأسد – حليف إيران و«حزب الله» الرئيسي – على يَد المتمرّدين في كانون الأول.
كما شكّل فقدان نصر الله ضربة كبيرة لصورة الحزب، إذ كان زعيماً جمع بين القيادة الدينية والاستراتيجية السياسية ودور القائد العسكري، وكان يتمتع بجاذبية نادرة في المنطقة، ممّا ساعد في توحيد أنصار الحزب. في المقابل، لا يتمتع القائد الحالي، نعيم قاسم، بالمكانة أو الكاريزما عينهما.
مع ذلك، يُحذِّر الخبراء من استبعاد «حزب الله» تماماً. فالوجود المستمر للقوات الإسرائيلية في جنوب لبنان يُعيد إحياء مبرّر الحزب الأساسي: المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
نيويورك تايمز