ولادة المشروع الدولي الجديد: خطة ترامب لتفكيك مثلث روسيا ـ إيران ـ الصين!

عندما جاء وزير الخارجية الاميركية ماركو روبيو إلى إسرائيل، وبصَمَ على خطة نتنياهو لضرب «حزب الله» و»حماس»، بقي سؤال واحد في الأذهان: ماذا عن إيران نفسها؟ هل اقتنع الأميركيون بضرب نظامها ومقدراته، لضمان سقوط المحور كله تلقائياً، كما يطلب نتنياهو؟ الجواب بدأ يتبلور في مكان آخر، في الرياض التي توجّه إليها روبيو من إسرائيل مباشرة.
بعقل رجل الأعمال، يدير الرئيس الاميركي دونالد ترامب مفاوضات في منتهى الذكاء مع روسيا. وبلا شك، هي ستقود إلى صفقات رابحة للطرفين. لكنها ستنعكس خسائر لدى أطراف آخرين.
مفتاح الصفقة بين واشنطن وموسكو، كما بات واضحاً، هو أوكرانيا، إذ اتفَق الوفدان على إنهاء الحرب هناك، وبعد ذلك، يتمّ الشروع في «دراسة التعاون الجيوسياسي والاقتصادي» بين واشنطن وموسكو، وفق ما جاء في النص الحرفي للتفاهم الذي سيتمّ تبنّيه على الأرجح في قمة تجمع ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأما أركان الوفدين الذين تمّ اختيارهم بعناية فسيشكّلون خلية تطلق ورشة عمل، وفق ما أُعلِن: «نحن الخمسة (من البلدين)، سننخرط في هذه العملية للتأكّد من المضي قدماً بطريقة مثمرة». والخمسة هم، إضافة إلى روبيو، مستشار الأمن القومي الأميركي مايك والتز المعروف بليونة مواقفه تجاه روسيا مقابل تشدّده الحادّ في وجه الصين، والمبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف وهو ملياردير يهودي بارع في المجال العقاري وتروق رؤيته الاقتصادية لترامب، ووزير خارجية روسيا المحنك سيرغي لافروف، ويوري أوشاكوف مساعد بوتين، الخبير في الشؤون الأميركية من خلال منصبه كسفير في واشنطن بين 1998 و2008.
في الشكل أولاً، الخاسر الأكبر في الاجتماع هو أوكرانيا التي وُضعت على المشرحة، بدل الجلوس إلى طاولة التفاوض. والخاسر تالياً هو أوروبا المغيبة، والتي يَفرُك قادتُها أيديهم قلقاً. وهذه الخسارة المدوية لحلفاء الولايات المتحدة الأساسيين لم يكلّف ترامب نفسه عناء تبريرها، فيما هو يناقض بسلوكه سلفَه جو بايدن الذي قدّم كل دعم لأوكرانيا والتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين الذين اندفعوا اليوم إلى التفكير جدّياً بالتقارب في ما بينهم إلى حدّ الاتحاد في فدرالية، وتشكيل الجيش الواحد الذي كان إيمانويل ماكرون تحدث عنه قبل سنوات، في ذكرى الحرب العالمية الأولى، وقابله ترامب (في ولايته السابقة) بمزيج من الغضب والسخرية.
الخبراء يقولون إنّ ترامب يتبنّى خطة انقلابية تماماً عبر العالم، ويريد بها نسف المعادلات التي قامت منذ سقوط المنظومة الاشتراكية، ويريد التأسيس لنظام دولي جديد ركيزته الولايات المتحدة، بعد إستيعاب القوى الدولية والإقليمية، الواحدة تلو الأخرى. وتقضي هذه الخطة بما يأتي:
1- رشوة روسيا المنهكة بإنهاء حرب أوكرانيا لمصلحتها، أي بـ»منحها» الأراضي التي تطالب بضمها هناك، وطمأنتها إلى أنّ أوكرانيا وكل دول أوروبا الشرقية لن تكون في الحلف الأطلسي ولن تشكّل تهديداً لها. وفي الموازاة، تتشارك واشنطن وموسكو في مشاريع اقتصادية ضخمة تؤدي إلى إنعاش الاقتصاد الروسي بعد الحرب، وتكون روسيا جزءاً من خريطة المصالح التي ترعاها واشنطن بين آسيا وأوروبا، على حساب طريق الحرير الصينية. ويتعهّد بوتين بوقف توجّهه نحو الشرق، أي الصين، وطبعاً التخلّي عن العلاقات الاستراتيجية مع طهران.
2- يؤدي هذا التطور إلى زيادة العزلة على إيران، فيزيد في ضعفها وتعطيل قدراتها في الشرق الأوسط، أي إنّه سيضع حلفاءها التقليديين في لبنان وفلسطين والعراق واليمن في وضع أكثر صعوبة، ويمنح إسرائيل القدرة على مواجهتهم. وإذا قرر ترامب ونتنياهو تسديد ضربات إلى منشآت نووية أو استراتيجية في الداخل الإيراني، فإنّهما سيضمنان عدم تقديم روسيا دعماً لها.
3- تكتشف أوروبا أنّها ارتاحت من أعباء حرب استنزفتها بقوة طوال 3 سنوات، وأنّها مستفيدة من وضعية السلام في القارة العجوز، ومن استعادة العلاقات الطبيعية مع روسيا.
4- تتسع تحدّيات الصين في المواجهة مع العالم، فتخفض سقف طموحاتها في التفاهم مع الولايات المتحدة.
وفي الصورة النهائية، سيكرّس ترامب تربّع الولايات المتحدة على عرش النفوذ العالمي الأول في العالم، لا بقوة الدبابات والصواريخ، بل بقوة الصفقات السياسية والتجارية. والحرب الباردة مع موسكو ستنتهي بدخولها تحالف المصالح مع الغرب. ولن يبقى خارج دائرة نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها سوى الصين. لكن هذه المعادلة ستستفز بكين للحفاظ على موقعها، فتنطلق ثنائية دولية جديدة: العالم كله تقريباً مقابل الصين ومعها حلفاء قلائل.
في الشرق الأوسط، ستكون إسرائيل أول المستفيدين للحصول على الدعم الأميركي شبه المطلق خصوصاً ضدّ إيران. وقبل يومين، أطلق مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني إبراهيم جباري تهديداً قوياً لإسرائيل، وقال إنّ «عملية الوعد الصادق 3» ستُنفّذ في الوقت المناسب وبالحجم الكافي والمدى الذي يحقق تدمير إسرائيل وتدمير مدينتي تل أبيب وحيفا». ومثل هذه التهديدات تناسب إسرائيل، لأنّها تبرّر استمرار الحضانة الأميركية لها.
وعلى الأرجح، هي ستحاول في عهد ترامب تنفيذ مشروعها التاريخي المعروف. وعلى اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والأردنيين والمصريين والعراقيين أن يدركوا كيف يواجهونه جيداً وبالعقل، للحدّ من الخسائر قدر الإمكان، بعدما ارتكب كثير منهم أخطاء فادحة ومكلفة جداً. ومن مصلحة هؤلاء أن يبنوا الشراكات الواعية مع القوى العربية التي تتصرف براغماتياً لتجاوز الواقع المأزوم وبناء المستقبل، كما تفعل الرياض اليوم باحتضانها التحضيرات الأولى لولادة المشروع الدولي الجديد.
طوني عيسى- الجمهورية