السياسيّون في وادي مصالحهم واللبنانيّون في وادي “العجز المكتسب”
عندما تنقطع، لمرحلة، عن العيش في لبنان، تأخذك وسائل التواصل الاجتماعي، الى انشغالات الناشطين فيها، وجلّهم من المسيّسين، ممّا يجعلك تتوه عن الانشغالات الحقيقيّة للشعب.
من بعيد، تعتقد بأنّ الأمور السياسيّة هي الشغل الشاغل للناس، وذلك استنادًا الى التصاريح والمواقف السياسية التي تتكامل مع انشغالات وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكن عندما تعود وتنغمس في الحياة اليوميّة للبنانيّين تتفاجأ بالتراجع الكبير في الاهتمام بالشؤون السياسيّة، فالمواطن العادي ينكفئ، بنسبة كبيرة جدًّا، إلى ما يعنيه مباشرة، فالحديث، أينما انتقلت، يتركز على الغلاء الفاحش، سواء على مستوى الخدمات أو على مستوى المحروقات والكهرباء الخاصة التي توفرها مولّدات الاحياء أو على مستوى أنواع الخبز، أو على مستوى السلّة الغذائية، والأهم على مستوى الطبابة والاستشفاء.
وأمام كثرة الهموم الحياتية لا يبقى للسياسة إلّا مكان ضيّق للغاية، فيما يغيب الاكتراث كليًّا بالأمور الاقليمية والدوليّة.
ولو أنّ العاملين في الحقل السياسي يتعاطون مع حقيقة نظرة الشعب اليهم لأصابهم الخجل بالشلل، ولعجزت ألسنتهم عن النطق بما به ينطقون ، اذ لا تكاد تذكر أيًّا من مواقف هؤلاء السياسيّين أمام أحد، حتى تنهال عليهم إما الشتائم أو السّخرية أو التأفّف.
ليس بين غالبيّة الناس ممّن تلتقي بهم ثقة بصدق هذا السياسي أو بفاعليّة ذاك.
المقارنات التي كانت تحفل بها الصالونات سابقًا بين سياسي وآخر انتهت. الجميع اصبحوا في “ورطة” واحدة.
والأخطر في هذا الابتعاد عن الهم السياسي أنّ غالبيّة اللبنانيين، ولو كانوا مشمئزين من المنظومة السياسيّة على اختلافها، إلّا أنّهم، على الرغم من مضاعفة ميلهم الى توزيع الشتائم، أقلّ ثورية من ذي قبل.
وهذا التراجع في الروح الثوريّة يعود الى مشاعر يأس، ليس من القدرة على التغيير فحسب، بل من جدوى التغيير أيضًا.
في البيئات الشعبيّة التي تنقلت فيها تلمّست عن كثب ما يسمّيه علم النفس الحديث ب” العجز المكتسب”.
عمومًا، هذا المفهوم يستخدم في التعامل مع الأفراد الذين يفتقدون الى الثقة بقدرتهم على انجاز المهام التي تناط بهم، ويبادرون الى اعلان الفشل.
في لبنان، غالبية الأفراد أصحّاء من هذا المرض النفسي، اذ إنّهم يسارعون الى اعلان قدرتهم على القيام بأيّ مهمة تُعرض أمامهم يمكنها ان تزيد مداخيلهم الماليّة، ولكن يبدو واضحًا أنّ عوارض مرض “العجز المكتسب” تفتك بالجماعة اللبنانيّة، اذ يبادر الناس الى اعلان يأسهم من إمكان إحداث التغيير، وفي حال ناقشتهم بالعكس يقدّمون الأمثلة المتلاحقة من ثورة ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٥ التي عادت وأنجبت هزيمة ساحقة وصولًا الى ثورة ١٧ تشرين الأوّل (اكتوبر) ٢٠١٩ التي يعتقدون بأنّها لم تنتج إلّا الخيبات.
قد يريح هذا الواقع الشعبي المنظومة السياسيّة، لأنّه يوفّر لها الاستمراريّة، بغضّ النّظر عمّا أنتجته من كوارث، ولكنّ السكوت عن تفشي مرض العجز المكتسب سوف يلحق مأساة لا يمكن لعقود أن تمحوها.
ومسؤوليّة السعي الى الشفاء الجماعي من هذا المرض، لن تحمل الطبقة السياسيّة التقليديّة لا أعباءها ولا شجونها ولا همومها، لأنّها هي التي أوجدته ووقفت وراء تفشّيه، لذلك لا بدّ من أن تسارع القوى المعنية بالتغيير الى تلقفّها، لأنّ الشعب المريض يساهم، من دون إرادته، في قتل الدولة التي هو العمود الأساسي من عواميدها الثلاثة
فارس خشان- النهار العربي