الإصلاح.. اختبار أول لحكومة العهد الأولى

مع تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام، يجد لبنان نفسه في مفترق طرق بالغ الأهمية، إذ تتطلب المرحلة الحالية اتخاذ قرارات جريئة وفورية لإعادة هيكلة الاقتصاد ومعالجة الأزمات المالية التي تتفاقم يوماً بعد يوم. وعليه، لم يعد هناك مجال للتأجيل أو الاكتفاء بالحلول الترقيعية التي أثبتت فشلها في السنوات الماضية، فالأوضاع الاقتصادية الراهنة تستدعي إصلاحات شاملة وعميقة تمتد لتشمل مختلف القطاعات الحيوية.
إصلاح القطاع العام
يُعتبر إصلاح القطاع العام خطوة محورية نحو إنعاش الاقتصاد الوطني، بحيث عانى هذا القطاع من تضخم كبير في عدد الموظفين الحكوميين وارتفاع غير مبرر في الرواتب والتعويضات، ما شكل عبئاً ثقيلاً على الموازنة العامة. وتُظهر الاحصائيات أن هذا القطاع يستحوذ على نحو 40 في المئة من إجمالي النفقات العامة، وهو ما يعوق قدرة الدولة على تخصيص الأموال للقطاعات الانتاجية والتنموية الحيوية. وقد أسهم استمرار هذا الوضع على مر السنين في تفاقم الأزمة، إذ يذهب معظم الموارد المالية نحو تغطية نفقات القطاع العام بدلاً من تمويل المشاريع الاستثمارية التي يمكن أن تساهم في تحسين الظروف الاقتصادية. وبالتالي، أصبح من الضروري اتخاذ خطوات جذرية لإعادة هيكلة هذا القطاع ليصبح أكثر كفاءة وأقل تكلفة.
ويشمل هذا الاصلاح إعادة تنظيم الجهاز الاداري وتبسيط الاجراءات الحكومية بهدف تحسين الأداء وتقليص الفائض الاداري. كما يجب تعزيز مبادئ الحوكمة الرشيدة التي تضمن الشفافية في عمليات التوظيف والترقيات، والحد من المحسوبية والفساد التي غالباً ما تقوّض فاعلية المؤسسات العامة. فالاصلاح في هذا المجال لا يقتصر على تقليص النفقات فحسب، بل يسهم أيضاً في تحسين الخدمة العامة وتوفير بيئة عمل أكثر عدلاً وكفاءة. كما سيكون لهذا الاصلاح تأثير مباشر في استعادة الثقة بالمؤسسات الحكومية.
إعادة هيكلة الدين العام
يُعتبر الدين العام أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة، بحيث بلغ مستوى الدين العام في لبنان أكثر من 150 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، ما يشكل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الوطني ويحد من قدرة الحكومة على تحفيز أي انتعاش اقتصادي حقيقي.
ويمكن القول إن إعادة هيكلة هذا الدين لم يعد خياراً بل ضرورة ملحة، اذ إن استمرار الوضع الحالي يهدد استقرار النظام المالي والاقتصادي. ومن أجل تحقيق ذلك، يحتاج لبنان إلى إجراء مفاوضات جادة مع الدائنين الدوليين والمحليين لإعادة جدولة السداد وتقليص أسعار الفائدة وإطالة آجال القروض. وستسهم هذه الخطوات التفاوضية في تخفيف العبء المالي على الحكومة من خلال تقليص تكلفة خدمة الدين. وستتمكن الحكومة من خلال هذه الاجراءات، من تقليص الضغوط المالية المترتبة على موازنة الدولة، ما يتيح لها إعادة توجيه المزيد من الموارد نحو المشاريع التنموية والاستثمارات الاستراتيجية التي تعزز الانتاجية في مختلف القطاعات، بدءاً من البنية التحتية وصولاً إلى قطاعات الطاقة والصناعة.
إصلاح القطاع المصرفي
منذ أزمة 2019، يشهد القطاع المصرفي اللبناني انهياراً غير مسبوق، بحيث تعرضت المصارف لأزمة حادة أدت إلى تجميد أموال المودعين وفقدان الثقة بالنظام المالي عموماً. هذا الانهيار لم يقتصر على الأضرار المالية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى فقدان الثقة العميقة من المواطنين والمستثمرين الأجانب بقدرة المؤسسات المالية اللبنانية على إدارة أموالهم بصورة آمنة وفاعلة. وبناءً على ذلك، لا يمكن للحكومة اللبنانية أن تحقق أي إصلاح اقتصادي حقيقي أو أن تبدأ مرحلة التعافي من دون أن تشرع فوراً في تحديد مسار إصلاح جاد للقطاع المصرفي، الذي يعد العمود الفقري للنظام المالي الوطني.
إذاً، تصبح إعادة هيكلة المصارف على أسس شفافة وعادلة الخطوة الجوهرية لاستعادة الثقة المفقودة. ويتطلب ذلك استعادة أموال المودعين وتطوير إطار عمل يضمن إعادة رسملة البنوك بصورة عادلة، تضمن حقوق جميع المودعين بغض النظر عن حجم ودائعهم، سواء الصغيرة أو الكبيرة. علاوة على ذلك، من الضروري تصحيح القيم المحاسبية للأصول وتحديث الأرقام المالية التي قد تكون قد تعرضت للتلاعب أو التقادم، بما يضمن دقة الصورة المالية للمصارف وشفافيتها، ويعزز من الثقة فيها على المدى الطويل.
السياسة النقدية وسعر الصرف
فقدت العملة الوطنية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، ما أدى إلى معاناة شديدة لكثير من اللبنانيين الذين أصبحوا غير قادرين على شراء السلع والخدمات الأساسية. ويعكس هذا التدهور الحاد مشكلة جوهرية في السياسة النقدية، التي باتت بحاجة ماسة إلى إصلاح شامل لاحتواء تداعيات هذه التقلبات الخطيرة.
وفي هذا السياق، يتطلب إصلاح السياسة النقدية تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان يمتلك الكفاءة والقدرة على وضع استراتيجية نقدية فاعلة لمواجهة هذه الأزمة المستفحلة، فضلاً عن تعزيز احتياطي النقد الأجنبي الذي وصل إلى 9.6 مليارات دولار منتصف شباط 2024، لضمان استقرار سعر الصرف، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل النقص الحاد في العملات الأجنبية الذي يضغط على استقرار السوق ويعمق الأزمة الاقتصادية.
إضافة إلى ذلك، يُعَد من الضروري إيجاد حلول مستدامة وفاعلة للحد من العجز في الحساب الجاري، الذي يُشكل أحد أبرز الأعباء التي تعوق نمو الاقتصاد بصورة سليمة ومتوازنة. كما أن تعزيز التعاون الوثيق بين الحكومة والمصرف المركزي لوضع سياسات نقدية متماسكة وواضحة من شأنه أن يُسهم بصورة كبيرة في تعزيز ثقة المستثمرين والمودعين.
البنية التحتية والطاقة
لا يمكن للبنان تحقيق انتعاش اقتصادي مستدام من دون إجراء إصلاحات جذرية في بنيته التحتية، التي تشكل الأساس الضروري لأي عملية تنموية طويلة الأمد. ويعد قطاع الطاقة من بين أكثر القطاعات إلحاحاً وأهمية في هذه المرحلة الحرجة. وتشير الدراسات إلى أن البلاد بحاجة ماسة إلى قدرة إنتاجية تصل إلى 3600 ميغاواط سنوياً لضمان إمدادات كهربائية مستقرة طوال اليوم.
وعلى الرغم من هذه الحاجة المُلحة، يعاني قطاع الكهرباء من انهيار مستمر في بنيته التحتية، ما أدى إلى استنزاف خزينة الدولة بصورة متواصلة. فمنذ انتهاء الحرب الأهلية، تجاوزت الخسائر التراكمية لهذا القطاع 37 مليار دولار، أي ما يعادل حوالي 40 في المئة من إجمالي الدين العام في لبنان. وتُظهر هذه الأرقام حجم الأزمة المالية الناجمة عن العجز المستمر في إنتاج الكهرباء وتوزيعها، والذي لا يزال يُكبّد الدولة خسائر سنوية تتراوح بين 1 و1.5 مليار دولار، تُخصص لتغطية الفجوة التمويلية الناتجة عن الفشل في تأمين إمدادات كافية من الطاقة.
تحفيز القطاع الخاص وريادة الأعمال
يشكل القطاع الخاص الدعامة الأساسية لأي اقتصاد منتج، بحيث يسهم في تحفيز النمو الاقتصادي، خلق فرص العمل، وتعزيز القدرة التنافسية للأسواق. ويُعد تشجيع ريادة الأعمال ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة من العوامل الجوهرية التي تُسهم في تنويع مصادر الدخل وزيادة الإنتاجية. وفي ظل ارتفاع معدلات البطالة وتراجع النشاط الاقتصادي، أصبح من الضروري تبنّي سياسات اقتصادية تخلق بيئة استثمارية جاذبة، من خلال تقديم تسهيلات مالية وتحسين الاطار التنظيمي والتشريعي، إضافة إلى تخفيف الأعباء الضريبية على الشركات الناشئة. كما أن توفير بيئة أعمال مستقرة ومرنة وتحفيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص يعززان ثقة المستثمرين ويشجعان التوسع والابتكار، ما يسهم في جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية وزيادة تدفقات النقد الأجنبي، وبالتالي تحقيق نمو اقتصادي مستدام.
استعادة الثقة الدولية
لا يمكن للبنان الخروج من أزمته المالية والبدء بعملية إعادة الإعمار من دون استعادة ثقة المجتمع الدولي، سواء على مستوى المساعدات المالية أو الاستثمارات الأجنبية. إذ بات واضحاً أن أي دعم خارجي سيكون مشروطاً بتنفيذ إصلاحات حقيقية وملموسة تعكس جدية الحكومة في مكافحة الفساد، وإعادة هيكلة الاقتصاد، وتعزيز الشفافية في إدارة المال العام.
ويتطلب كسب ثقة المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة التزاماً فعلياً بتنفيذ سياسات إصلاحية شاملة، تشمل تحسين الادارة المالية، وإطلاق مشاريع تنموية واضحة المعالم، تضمن توجيه الموارد بصورة عادلة وفاعلة، بعيداً عن الهدر والمحسوبية. كما أن تعزيز الشفافية والمساءلة في عمل المؤسسات الحكومية، إلى جانب توفير بيئة قانونية مستقرة، سيساهمان في استقطاب الاستثمارات الأجنبية التي يحتاج اليها لبنان بشدة لإعادة بناء قطاعاته الحيوية وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
ومن دون هذه الاصلاحات، سيظل لبنان في حالة من العزلة المالية، بحيث سيتردد المستثمرون والداعمون الدوليون في تقديم أي دعم ملموس، خوفاً من غياب الضمانات الكافية لضمان الاستخدام الأمثل للموارد. لذا، فإن استعادة الثقة الدولية ليست مجرد شرط للحصول على التمويل، بل هي ركيزة أساسية لضمان تعافي الاقتصاد وإعادة لبنان إلى مسار التنمية والاستقرار.
هدى علاء الدين- لبنان الكبير