هل يساهم الضغط الخارجي في ولادة الحكومة؟

يتخبّط المشهد السياسي اللبناني بين عقبات تأليف الحكومة والتوتّر على الحدود الجنوبية وخروقات تنفيذ اتّفاق وقف النار.

أخذت تتزايد الخشية من فقدان زخم “المرحلة الجديدة” بانتخاب الرئيس جوزف عون، وتكليف الرئيس نوّاف سلام تشكيل حكومة. تكثر الدعوات إلى أن يُصدِر الرئيسان التشكيلة الحكومية التي يتوافقان عليها من دون الرضوخ للمطالب الفئوية، وليحجب البرلمان الثقة عنها أو يمنحها لها.

يتسلّح الرئيس المكلّف نوّاف سلام بمعاييره الأربعة لتأليف الحكومة، لإنتاج معادلة جديدة في إدارة البلاد، ويتمسّك بها بصلابة. لكنّه يتجنّب التصلّب، فيختار “المرونة” في مقاربته، كما قال بعد لقائه الرئيس عون الأربعاء الماضي. ومع أنّه لم يتّهمه أحد بوضع “العقبات” أمام ولادة الحكومة، نفى أن يكون هو من يقوم بذلك. أراد بكلامه الإشارة إلى العرقلة التي تُسبّبها مطالب الأفرقاء التوزيريّة. ويمكن القول إنّه يردّ بذلك على من يطالبونه بالإقدام على وضع تشكيلة حكومية من دون مواقف الكتل النيابية.

“مرونة” سلام و”شراكة” عون

في مقابل جزمه بأنّه على اتّفاق مع الرئيس عون، نقل عددٌ من زوّار القصر الرئاسي عن الأخير لـ”أساس” أنّه على تفاهم كامل مع الرئيس المكلّف، فالتوافق بين الرجلين يشكّل حجر الزاوية في التأليف وصمام الأمان لانطلاقة موعودة تقوم على تفاهمهما.

كان تعهّد الرئيس عون في خطاب القسم تكليف رئيس حكومة “شريك في المسؤولية لا خصم، نمارس صلاحيّاتنا بروح إيجابية”. حدّد خطاب القسم في هذا المجال هدفاً هو “تفضيل الكفاءة على الزبائنيّة والوطنية على الفئوية”.

لم يتأخّر الرئيس عون عن تأكيد المعايير التي كرّرها سلام، بعد لقائه الأربعاء. إذ وزّع المكتب الإعلامي الرئاسي عن لسانه دعوته “إلى ضرورة أن تتمثّل الطوائف من خلال النخب التي لديها استقلاليّة القرار”، ومطالبته “بالتوقّف عن المناكفات والحصص الوزارية”. كان ذلك نوعاً من التطابق يعكس اتّفاقاً على صيغ سلام الحكومية. وهو مخالف للمعادلات التي كانت تؤخّر قيام الحكومات.

في الأيّام الماضية أخذ اللغط حول مسار التأليف أبعاداً يجانب بعضها الواقع. وربّما كان ذلك بسبب الكتمان الذي يقتضيه عادة رسم التشكيلة الحكومية، أو بفعل عدم تأقلم فرقاء مع “المرحلة الجديدة”:

ما يزال على وتيرته الزخمُ الدولي العربي الداعم لانطلاقة التركيبة الرئاسية الجديدة ورعايتها. زيارات وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي، ومسؤول الملفّ اللبناني في الخارجية السعودية الأمير يزيد بن فرحان، ومجيء مسؤولة ملفّ لبنان في البيت الأبيض مورغان أورتيغاس… دليل على ذلك. وما يعتبره البعض تدخّلاً سافراً في الشؤون الداخلية، أو “وصاية”، يُنتظر أن يتكرّر في تزكية ما يتّفق عليه عون وسلام.

لن يشذّ التأليف عن تلك القاعدة التاريخية إبّان الأزمات التي عصفت بلبنان تاريخياً، وهي أنّه ساحة تتفاعل فيها أحداث الإقليم الكبرى. ومهما تغنّى بعض الفرقاء باستقلالية القرار، لن يتمكّنوا من تجاهل مقتضيات الإدارة الخارجية للتغييرات في الداخل. بات الأمر محصوراً بالخيار بين الإدارة الإيرانية الآفلة، وبين الإدارة الدولية العربية.

واشنطن وضغينة إسرائيل ضدّ سلام

ساد في بعض الأوساط أنّ واشنطن لم تكن متحمّسة لتكليف نوّاف سلام رئاسة الحكومة مراعاةً لموقف إسرائيل التي “لن تغفر له صدور حكم عن محكمة العدل الدولية برئاسته”، بإدانة احتلالها الأراضي الفلسطينية، وبالطلب إليها وقف إجراءات تقع تحت جريمة الإبادة الجماعية. وهو أوّل حكم من أعلى هيئة قضائية في العالم. نقل الموقف الإسرائيلي، وفق معلومات “أساس”، أكثر من جهة دولية، أبرزها الأمين العامّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال زيارته بيروت قبل أسبوعين.
ردّدت أكثر من جهة أنّ واشنطن كانت تفضّل عدم تكليف سلام، جرّاء مراعاتها إسرائيل. إلا أنّ إدارة ترامب سلّمت بنتيجة الاستشارات التي رجّحت كفّة سلام، لا سيما أنّها تدعو إلى تغيير الطبقة السياسية المتّهمة بالفساد، إضافة إلى أنّ سلام يلتزم القرار الدولي 1701 ويدعو إلى تنفيذه منذ زمن. لكنّ ذلك لم يمنع دوائر متّصلة بإدارة ترامب، تتأثّر باللوبي الإسرائيلي، من الاشتباه بأنّ سلام يراعي “الحزب” في تأليف الحكومة.

كان هذا المناخ وراء الرسالة التي بعث بها عضوا الكونغرس الأميركي من أصل لبناني، دارين لحود وداريل عيسى، إلى كلّ من عون وسلام، ودعَوَا فيها إلى عدم تمثيل “الحزب” في الحكومة، وإرسالهما كتاباً إلى ترامب وفريقه في البيت الأبيض لدعوتهم إلى العمل على عدم تمثيل “الحزب” أو أدواته في الحكومة الجديدة.

مخرج “غير الحزبيّين”

إنّ تفاهم عون وسلام على تعيين غير الحزبيّين وزراء، مخرجٌ لمعضلتين:
الأولى: الإصرار الأميركي والغربي عموماً، وكذلك العربي، على رفض التمثيل المباشر لـ”الحزب”، بحيث لا يجيّر وزارات لمقتضيات خططه، إضافة إلى احتفاظه بالسلاح وتصنيفه على لائحة الإرهاب الأميركية.

الثانية: الخروج عن قاعدة تمثيل وزراء ساهمت أحزابهم في الانهيار الاقتصادي والماليّ عبر المحاصصة في المغانم التي توفّرها نشاطات الدولة ومؤسّساتها. شكّل ذلك غطاءً لدرجة عالية من الفساد بعقليّة الميليشيات، وتبادل وزراء الخدمات والمقايضات في هذا المجال، وهو ما سمح بإطلاق تصنيف “المنظومة” عليهم. هذا على الرغم من أنّ الأمر لا ينطبق على الأحزاب كافّة. ولذلك يرفض بعضها عن حقّ شيطنتها. لكنّ تعميم المعيار يفترض استبعاد حزبيّيها عن الوزارة على قاعدة المساواة، وبهدف إتاحة قيام فريق عمل متجانس في تسمية الوزراء.

هذا المعيار استولد المعيار الثاني باستبعاد المرشّحين للانتخابات عن الحقائب الوزارية، وكذلك معيار الكفاءات العالية.

“مرونة” سلام مقابل صلابته في معاييره اقتضت مراعاته الآتي:
معيار عدم احتكار أيّ طائفة لأيّ حقيبة وحقّ أيّ طائفة بأيّ حقيبة لا يحجب قراءته المشهد السياسي بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان. فالطائفة الشيعية “جريحة” جرّاء الخسائر الكبرى التي تعرّضت لها وسط حملات سياسية على قيادتها. لذلك لم يمانع إسناد حقيبة المال إليها، لكن على أن يسمّى لها وزير غير حزبي تنطبق عليه المعايير الأربعة. مرونة سلام لم تتمّ وفق حجّة رئيس البرلمان نبيه بري بأنّ محاضر اتّفاق الطائف نصّت على ذلك. فالرئيس المكلّف من فريق من المتابعين عن كثب لمداولات الطائف، التي قال نوّاب شاركوا فيها إنّ تخصيص الحقيبة للطائفة اقترحه البعض ولم يؤخذ به، حتى إنّه استُبعد من البحث.

الحاجة للصّلاحيّات الاستثنائيّة

إنّ الحاجة إلى الحصول على أوسع ثقة برلمانية للحكومة الجديدة تفترض التشاور مع الكتل النيابية في التأليف، من دون تلبية شهواتها التوزيريّة. لذلك اعتمد الصبر في المداولات معها. وفيما يغرق الوسط السياسي في حديث التوزير تبرز مسألة شديدة الأهمّية لانطلاقة العهد والورشة الإصلاحية للحكومة. فالحكومة تتهيّأ لطلب صلاحيّات تشريعية استثنائية من البرلمان في بيانها الوزاري. هذه الصلاحيّات أحد عوامل تسهيل عملها في ميادين محدّدة يتطلّبها تسريع النهوض بالاقتصاد وتصحيح الوضع الماليّ وإعادة الإعمار وتنشيط الإدارة. عمر الحكومة قصير، أي سنة و3 أشهر، قبل اعتبارها مستقيلة بعد إجراء الانتخابات النيابية في أيار 2026. وإذا لم تكن يدها مطلقة فإنّ الإصلاح سيتأخّر. وهو أمر كان مدار تداول بين سلام وبين العديد من القوى المحلّية والخارجية منذ طُرح اسمه قبل سنتين.

الأحزاب المسيحيّة والدّعم “المقدّس” للرّئاسة

إمكان اللجوء إلى حكومة لا ترضي الفرقاء كافّة ما يزال وارداً، جرّاء الضغوط الخارجية المتوقّعة على القوى المحلّية من سائر الطوائف. وإدراك الثنائي الشيعي أنّ معايير سلام مفتاح للضوء الأخضر الدولي والعربي للمساعدة على إعادة الإعمار سيقود لتسهيل الأمر.

لكنّ الأهمّ، حسب قول مصادر ثقة لـ”أساس”، أنّ معظم الكتل والأحزاب المسيحية قرّرت أن تكون حزب العهد الرئاسي الجديد. فقادة الكتائب و”التيار الوطني الحر” و”المردة” عادوا إلى القاعدة السابقة التي تراجعت إبّان إملاء الوصاية السورية و”الحزب” الموقف من رئيس الجمهورية. وتشير المعلومات إلى أنّ النائب جبران باسيل انضمّ إلى هذه القاعدة مع إبلاغه الرئيس عون بأنّ “الخلافات صارت وراءنا”، فما كان من رئيس الجمهورية أن قال له: أين هي الخلافات؟ عادت هذه الكتل إلى اعتبار دعم الرئيس المسيحي مسألة “مقدّسة”. ويصعب على حزب “القوات اللبنانية” أن يشذّ عن هذه القاعدة، على الرغم من ملاحظاته على الحكومة. وإنّ إمكان صدور الحكومة بالصيغة التي يراها سلام بالاتّفاق مع الرئيس عون سيلقى قبولاً من الفرقاء المسيحيين، بحيث لا يعود سهلاً على الثنائي الشيعي، أو على الأقلّ الرئيس بري، معارضتها.

وليد شقير- اساس

مقالات ذات صلة