لا تراهنوا على الرئيس في أميركا: من يربح معركة الجنوب يربح الحرب!

يخطئ من يظن في لبنان أن السياسات الأمنية الاستراتيجية الأميركية في العالم تقوم دائماً على شخص الرئيس الذي يسكن البيت الأبيض، وأن لا خيط يقطع في أي مكان الا بأمر حصري منه.

صحيح أن لا شيء يمر في واشنطن أو من واشنطن من دون توقيع الرئيس وموافقته، الا أن الصحيح أيضاً أن من يهندس مسارات الأمن القومي الأميركي ويحدد شروطها، هم في معظمهم من رجال الاستخبارات المركزية الأميركية ومراكز الدراسات الاستراتيجية الذين يدورون حول الكرة الأرضية بحثاً عما يمكن أن يكون أو يشكل أرضاً خصبة للاستثمار الاقتصادي ومتطلبات الأمن القومي أو لما يمكن أن يكون أو يشكل مصدر خطر أو مصدر منافسة يدفع الجبار الأميركي الى الصفوف الخلفية.

انطلاقاً من هذا الواقع، لن يفعل أي رئيس يدخل البيت الأبيض، سواء كان دونالد ترامب أو كامالا هاريس ما قد لا يفعله الآخر في ما يتعلق بالحرب الدائرة في الشرق الاوسط وتحديداً في الموقف من اسرائيل، التي نجحت على مدى سبعين عاماً في التحول الى كيان لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتخلى عنه أو تتجاهله أو تضحي به سواء كان في حالة دفاع أو اعتداء.

وما ساعد اسرائيل على احتلال هذا الموقع الفضفاض، هو غياب أي طرف عربي أو اسلامي أو رفضه أو عجزه عن حجز مثل هذا الموقع بعد سقوط الشاه في ايران، وانحسار العلمنة في تركيا، وذلك لسببين أساسيين: الأول القضية الفلسطينية التي تبقي العرب في حال تردد وحذر وانقسام، والثاني النزعات الدينية الأصولية التي تنظر الى أميركا بصفتها “الشيطان الأكبر” والى الأنظمة العربية بصفتها كيانات “مرتدة”.

وبعيداً من كل ذلك، يرفض البعض في العالم العربي الاقرار بأن ما كانت الولايات المتحدة قادرة على القيام به قبل “السابع من أكتوبر”، لم يعد ممكناً بعده، بعدما أحبط محور الممانعة من خلال “حماس” عمليات التطبيع بين إسرائيل والعرب، وبعدما تبنى رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو كل الخيارات التي تؤدي الى الحروب الحاسمة والدامية.

وما لا يقر به الممانعون وبعض العرب أيضاً، أن الحروب التي تخوضها اسرائيل منذ أكثر من عام هي حروب أميركا، وأن الأعداء الذين تقاتلهم اسرائيل هم أعداؤها أيضاً، بدءاً ممن تورطوا في عمليات موجعة ضد الولايات المتحدة وفي مقدمها تفجير مقر المارينز في بيروت في العام ١٩٨٣، وصولاً الى ظاهرة الحركات الأصولية في العالم العربي، وانتهاء بالمغامرات والتحديات الايرانية التي تفاوتت بين السعي الى انتاج سلاح نووي، والتوسع عسكرياً حتى حدود اسرائيل، والتورط عالمياً في نزاعات تهدد أمن أوروبا وتحديداً في أوكرانيا.

وأكثر من ذلك، تدرك أميركا أن اسرائيل تفعل في مواجهة ايران ما لم تفعله كل الدول العربية التي خرج بعضها محبطاً من اليمن، وخرج البعض الآخر منقسماً أو جريحاً من دولة “داعش”، وخرجت جميعها من أي صراع مباشر مع ايران وآثرت التعامل معها من باب النأي بالنفس في مكان أو المهادنة في مكان آخر.

وقد يسأل سائل، هل يمكن أن تتحمل الرئيسة هاريس أو الرئيس ترامب تداعيات ما يفعله نتنياهو في لبنان أولاً وفي مواجهة ايران ثانياً من دون أن يتورطا في حرب اقليمية واسعة أو أن يوسعا الهوة بين أميركا الخائفة على اسرائيل والعرب الخائفين منها؟

الجواب نعم بالتأكيد، لا لأن نتنياهو على حق وليس لأن العلاقات مع العرب ليست جوهرية وحتمية، بل لأن الظروف الاقليمية والدولية التي يقاتل فيها نتنياهو، تضع الولايات المتحدة في حال حرب قسرية لا مناص منها وسط أجواء وتقارير تؤكد أن الحصار الذي كان يعانيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والنظام الحاكم في طهران، انقلب الى حصار على الولايات المتحدة لا يمكن التخلص منه الا من خلال التأهب عسكرياً وسحب أسلحتها الاستراتيجية من المخازن والترسانات.

وتضيف الأجواء والتقارير أن أميركا لا يمكن أن تسمح أو تهضم أي هزيمة يمكن أن تلحق بالدولة العبرية، في وقت تخشى أن يؤدي دخول كوريا الشمالية على خط الصراع الروسي- الأوكراني الى سقوط كييف عسكرياً أو جر حلف الأطلسي الى ارسال قوات في المقابل وبالتالي استنساخ فيتنام جديدة في قلب أوروبا، اضافة الى أنها تخشى مغامرة عسكرية من الصين للانقضاض على جزيرة تايوان، ما يعني عملياً خسارة أهم ثلاث محطات استراتيجية في كل من الغرب والشرق.

وانطلاقاً من هذا الواقع، لا يبدو منطقياً الرهان ايجاباً على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، في وقت جاء الجواب مبكراً جداً من خلال ارسال قاذفات “بي ٥٢” وقطع حربية الى الشرق الأوسط مرفقة بتحذير ايران من أي مغامرة عسكرية جديدة ضد اسرائيل يمكن أن تؤدي الى رد يطاول هذه المرة المنشآت النووية وربما النظام الحاكم الذي بدأ يتخوف من تقلبات تعيد عائلة الشاه الى الحكم، اضافة الى ارسال قطع بحرية نووية الى المياه المتاخمة لشبه الجزيرة الكورية وأخرى الى بحر الصين.

وانطلاقاً من هذا الواقع أيضاً، يمكن أن نفهم أمرين في حسابات “حزب الله” وايران، وهما أولاً الاصرار على الصمود في معركة الجنوب باعتبارها خط الدفاع الأخير عن “الثورة الاسلامية”، وثانياً لاقتناع الطرفين بأن من يربح معركة الجنوب يربح الحرب ويسهم في فرض الشروط بدلاً من تلقيها.

وليس من قبيل المصادفة على خط متوازن، أن تنطلق حملة غير بريئة ضد الجيش اللبناني بعد عملية الانزال الاسرائيلي في البترون، تهدف الى التقليل من شأنين أساسيين، الأول اظهار الجيش في مظهر القوة العسكرية غير المؤهلة لتطبيق القرار الرقم ١٧٠١ ولا حراسة المعابر البرية والبحرية، والثاني السعي الى ضرب فرص العماد جوزيف عون في الوصول الى قصر بعبدا وتشويه صورته القيادية.

وليس في هذا الموقف عملاً من أعمال السياسة اللبنانية التي اعتاد “حزب الله” انتهاجها قبل الحرب، فهي تدل على أمرين خطيرين، الأول أن ايران لا تريد انهاء الحرب وفق القرار ١٧٠١ ولا افساح المجال لأي خطوة تجرد “حزب الله” من سلاحه، والثاني أنها تريد أن تقطع الطريق على المساعي التي تبذلها أميركا ودول غربية وعربية لتزويد الجيش عتاداً نوعياً يمكنه من فرض الأمن على الحدود الى جانب قوات دولية، وفي الداخل حيث يتردد أن “المقاومة الاسلامية” تخطط لفرض نوع من الاحتلال المقنع الذي يمكنها من السيطرة على مناطق المعارضة بالمال حيث يمكن وبالسلاح حيث يجب.

انها حرب على جبهتين يخوضها محور الممانعة، حرب لاحتواء ما يمكن أن يفعله الرئيس الأميركي الجديد، وحرب لمنع لبنان من انتخاب الرئيس العتيد من دونه، اضافة الى حرب خفية يريد بها افهام المعارضة أنها خسرت حسن نصر الله لكنها لم تخسر خامنئي، وأنها خسرت منازلها لكنها لم تخسر لبنان اضافة الى همسات في الكواليس تقول: اما أكون في كل الجنوب واما لا يكون الجنوب لأحد.

انطوني جعجع- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة