«سكاكين» المصالح تحت الزنار…وقد يكون المخفي أعظم!
ينعقد مؤتمر باريس والمخصّص للبحث في السبل الآيلة لدعم لبنان، إن على المستوى الاجتماعي، بعدما بلغت الأزمة مستويات خطيرة في ظل النزوح الداخلي الهائل نتيجة الحرب الدائرة، أو على المستوى العسكري، لناحية تأكيد سبل دعم الجيش اللبناني لكي يستطيع مواكبة الحلول المطروحة لوقف الحرب، أو حتى على المستوى السياسي والجهود الدولية لتأمين التسوية المطلوبة لإرساء سلام ثابت وطويل الأمد، والمساعدة في تجاوز الأزمة الداخلية وإعادة تمتين ركائز الدولة وإنقاذها من التحلل والتفكّك، بدءاً من إجراء الإستحقاق الرئاسي.
وتشكّل المحطة الباريسية دعماً دولياً مهمّاً ومؤشراً واضحاً إلى أنّ لبنان ليس متروكاً، وهي الرسالة الأهم التي يحملها انعقاد المؤتمر. لكن الواقعية تقتضي الاعتراف بأنّ زمن الحلول لم يحن بعد، والأهم أنّ ثمة نزاعات خفية تدور بين من يفترض أنّهم حلفاء، ولا بدّ من قراءتها بتأنٍ وتمعنٍ.
فداخل فريق «محور المقاومة» هنالك تباينات صامتة بين طهران و«حزب الله» من جهة وموسكو ودمشق من جهة أخرى، كما أنّه داخل الفريق الدولي المقابل هنالك نزاع مكتوم بين واشنطن وباريس.
فعلى مستوى المحور المحسوب على «حزب الله»، كان لافتاً ما ظهر من برودة في الموقف السوري إزاء الحرب القاسية التي يدفع ثمنها «حزب الله» وحيداً، بعكس ما كان عليه الوضع في حرب العام 2006. وفي نيسان الماضي وعقب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» اسماعيل هنية في طهران، أوفد الرئيس الروسي أمين مجلس الأمن القومي سيرغي شويغو إلى طهران في آب الماضي، طالباً تحييد سوريا وعدم إشراكها في أي ردّ إنتقامي تزمع إيران القيام به. وقبل ذلك كان بوتين قد تفاهم مع الرئيس السوري بشار الاسد على عدم التورط في تداعيات الحرب التي اندلعت في غزة. لكن الإحراج بلغ ذروته مع بدء الحملات الجوية الواسعة على «حزب الله» في لبنان بدءاً من شهر أيلول الماضي. يومها تردّد أنّ الطائرات الإسرائيلية استهدفت أحد مقرات قيادة الفرقة الرابعة والتي تخضع لإمرة ماهر الأسد. وأرفقت إسرائيل عمليتها برسالة إلى موسكو تحذّر فيها من اي تورط لدمشق في الحرب الدائرة في لبنان، وحتى بعدم السماح باستخدام الأراضي السورية لمهاجمة إسرائيل. واستتبعت إسرائيل رسالتها بقصف معبر المصنع، بعد أن كانت استهدفت معبر القصير الخاضع لسيطرة «حزب الله». وسمع وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته الأخيرة لدمشق والتي تلت محطة بيروت، موقف سوريا بالنأي بنفسها عن النزاع الدائر في لبنان.
أما على مستوى الفريق الدولي المواجه لإيران، فثمة تباينات كبيرة بدأت تتكشف ما بين واشنطن وباريس حول الملف اللبناني، وهو ما يفسّر خفض مستوى المشاركة الأميركية في مؤتمر باريس على رغم من أنّ الدعوة كانت قد وُجّهت إلى وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن الذي يجول في عواصم الشرق الأوسط. وقد تمّ تفسير ذلك بأنّه في إطار الإعتراض الأميركي المبطن للحركة الفرنسية. صحيح أنّ جولة وزير الخارجية الفرنسية والتي كادت أن تحقق تقدّماً حاسماً أجهضتها زيارة نظيره الإيراني عباس عراقجي لبيروت. إلّا أنّ هنالك من يعتقد بأنّ زيارة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين جاءت لتقطع الطريق على الورقة التي أعدّتها فرنسا حيال تصورها للحل في لبنان، ولتستبق مؤتمر باريس وتشوش عليه. وما عزز هذا الإعتقاد أنّ مهمّة هوكشتاين الأخيرة لم تحمل جديداً حقيقياً يسمح بتحقيق خرق في مسار الأحداث، وبالتالي يستوجب حصولها قبل أسبوعين من موعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية.
لكن اللافت أنّ مضمون لقاء هوكشتاين بالرئيس نبيه بري خضع لحصار محكم، وبقيت تفاصيله «سرّية» على رغم من التسريبات المغلوطة والمبالغ فيها، والتي كانت تهدف في الواقع لإرسال إشارات سلبية، وبأنّ وقت الحلول لم يحن بعد. وكل ما تسرّب تمحور حول دور محوري مستقبلاً للجيش وقوات «اليونيفيل»، والتي ستحصل على صلاحيات عملانية وليس فقط رقابية كما هو حاصل الآن، ولو وفق حدود معينة ومدروسة.
لكن «الوشوشات» التي تضجّ بها الكواليس توحي باعتراضات أميركية على الورقة التي أعدّتها باريس. ووفق ما تسرّب فإنّ الورقة الفرنسية تحدثت عن خريطة طريق برعاية أميركية وفرنسية، وأن تحظى بموافقة مسبقة من طهران.
والمأخذ المعلن عن الورقة الفرنسية هو بمنح إيران هذا الدور الأساسي. ولكن هنالك من يعتقد أنّ المأخذ له علاقة بوضع باريس على قدم المساواة مع واشنطن، خصوصاً أنّ الأجندة الأميركية لم تكتمل بعد حول المنطقة.
ومن هنا كان المأخذ الأميركي على مؤتمر باريس بأنّه جاء مرتجلاً وسابقاً لأوانه لناحية الترتيب الزمني للأحداث. فهنالك محطات يجب إنجازها قبل الدعوة إلى عقد المؤتمر لكي يصبح منتجاً ومثمراً. والمقصود هنا، إنجاز التفاهمات السياسية العريضة على مستوى المنطقة، ومن ثم تحديد الصيغة النهائية للتسوية في جنوب لبنان، وعندها يحين دور المؤتمر بأبعاده الثلاثة العسكرية والاجتماعية والسياسية، لكي تصبح النتائج قابلة للتطبيق. لكن هنالك رأياً آخر يعتقد أنّ سبب إستعجال باريس يعود الى حرصها على حجز دورها الأساسي للمرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ العمل جارٍ لرسم خريطة النفوذ في المنطقة، وحيث تدرك باريس أنّها تلقّت ضربات كبيرة خصوصاً في إفريقيا، وأنّها تطمح لتركيز ما تبقّى من نفوذ خارجي لها عبر الساحة اللبنانية، كآخر معقل لها على الأقل في الشرق الأوسط وعند الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
وفي المقابل، بدت باريس مستاءة بعض الشيء لسعي واشنطن الدائم لإقصائها وجعلها تبدو ملحقاً غير ذي فائدة. فهي لا تتوانى عن الترداد بأنّ لبنان لا يشكّل مصلحة إقتصادية لها لا بل فهي تتحمّل تبعات في هذا المجال. وبالتالي فإنّ الرابط الذي يشدّها إلى لبنان هو رابط تاريخي وأخلاقي، وهي لذلك تهبّ لمساعدته عند كل منعطف، وهو ما تفعله الآن سعياً لإخراجه من الكارثة التي تكاد تقتلعه.
وقد تبدو باريس مرتابة من الغموض المتعمّد للأهداف الإسرائيلية وتالياً الأميركية من لبنان والمنطقة. والمقصود هنا بالمطلوب الفعلي من «اليوم التالي». فهذا ما يدفع إلى رسم علامات الإستفهام حيال ترك واشنطن لزمام المبادرة بيدها من دون أي مشاركة. والأهداف «الغامضة» هنا قد تكون تتعلق بالمخاطر الجدّية التي تهدّد بتمزيق النسيج الإجتماعي اللبناني جراء التدمير القائم للبلدات والقرى الشيعية، والتي يرافقها نزوح فوضوي وسط احتقان سياسي وطائفي متصاعد ومرشح للانفجار كل لحظة. ربما من هنا جاءت صرخة وزير الدفاع الفرنسي حين تحدث عن حرب أهلية وشيكة في لبنان، على رغم من أنّ الاقتناع الفرنسي الحقيقي لا يجاري هذا الاعتقاد ويعتبره مبالغاً فيه، ولا يستند إلى عناصر علمية حقيقية، بل أنّ الأمور أقرب إلى الفوضى الأمنية العارمة وبرك الدم المتنقلة والتي تهدّد فعلياً مستقبل النسيج اللبناني الفائق الحساسية واستمراريته.
ولا بدّ من أن تكون باريس تستذكر محطات التناقض بينها وبين واشنطن في لبنان. كمثل محطة الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 وما تلاها، ومحطة إزاحة العماد ميشال عون من قصر بعبدا عام 1990، وأيضاً محطة «عناقيد الغضب» عام 1996. فيومها شعرت باريس أنّ وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر حاول إبقاء فرنسا خارج طاولة الحل. لكن الرئيس السوري حافظ الأسد وبمسعى من الرئيس رفيق الحريري، تمسّك بحضور فرنسا، وهو ما جعلها أحد الأطراف الخمسة لوثيقة الحل. وقد يكون التقييم الفرنسي يومها أنّ الرئيس السوري سلّف الحريري خطوته تجاه فرنسا في ما كان يحقق مصلحته، وعلى أساس أنّه يريد فرنسا كشاهد أو ضامن على مضمون الإتفاق مع الأميركيين.
وقد يكون هذا الدرس التاريخي هو ما جعل باريس تبدي مرونة تجاه حفظ دور إيران في الورقة التي أعدّتها. ويجب عدم إغفال التواصل المباشر الذي تمسكت به باريس مع «حزب الله» والذي لا يزال قائماً عبر سفارتها في بيروت، على رغم من الظروف الأمنية الصعبة التي تعيشها قيادة «حزب الله». فمن الطبيعي أن يكون التواصل الذي لا يزال قائماً يحصل مع شخص آخر غير عمار الموسوي والذي كان مكلّفاً الملف.
في أي حال، فإنّ باريس المرتابة من الغموض الإسرائيلي و«التطنيش» الأميركي تدرك أنّ لبنان يختلف عن غزة. وبخلاف الإعتقاد السائد بأنّ نتنياهو يندفع في حروبه لحساباته السياسية الداخلية. فهي ترى أنّ الحكومة اليمينية الإسرائيلية تنفّذ رؤيتها وعقيدتها السياسية، مع ضرورة استغلال هذا الظرف التاريخي، والذي قد لا يتكرّر مستقبلاً. ومن هنا علامة الإستفهام الأوروبية حيال الغموض القائم حول مستقبل الوضع في لبنان. واستطراداً قد تكون فرنسا تجد في سياسة الإدارة الأميركية «تطنيشاً» متعمداً لترك الطريق مفتوحاً أمام الآلة الحربية لنتنياهو. وهو ما قد يجعلها تعتقد أنّ لا فارق جوهرياً بين بقاء الديموقراطيين في البيت الأبيض أو قدوم الجمهوريين. وكأنّها تُرجع الأمر إلى أنّ القرار الأميركي ترسمه المؤسسات الأميركية أو ما يُعرف بالدولة العميقة، وبالتالي، أن ما يحصل هو مشروع أكبر بكثير مما نعتقد، والذي سيؤثر بشكل أكيد على دول البحر المتوسط. فالإختلاف بين كامالا هاريس ودونالد ترامب قد يكون في أوروبا وأوكرانيا وحلف «الناتو» لكن ليس في الشرق الأوسط.
لذلك قد تبرّر باريس استعجالها في صوغ ورقتها وعقدها للمؤتمر بوجوب نزع الذريعة من يد الحكومة اليمينية الإسرائيلية ودفعها للقبول بوقف إطلاق النار. والمسؤولية هنا تقع أيضاً، وربما أولاً، على إيران والفريق الشيعي في لبنان لناحية الإفراج عن الإستحقاق الرئاسي ومن ثم تشكيل حكومة شرعية، للقول لإسرائيل إنّ هنالك شيئاً ما بدأ يتغيّر في لبنان، ما يستوجب إعطاء فرصة لتحقيق الأهداف والضمانات المطلوبة بالسياسة والتفاوض وليس بنار الحرب.
فأوروبا تخشى في حال استمرار الإندفاعة الحربية الإسرائيلية في المنطقة، وبالتالي الإمعان في توجيه الضربات لإيران في المنطقة والمزيد من إضعافها، أن يتحول ذلك إلى رفع منسوب احتقان «حزب الله» داخل لبنان وانفجاره على شكل مواجهات دموية متنقلة. وعندها يصبح لبنان في واقع آخر، خصوصاً أنّ الأعباء التي يحملها الجيش باتت كبيرة وثقيلة.
وتقترح باريس أن يتمّ الإسراع في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وأن تُشكّل حكومة من خارج القوى الحزبية لكي تشرف على الانتخابات، على أن يتولّى المجلس النيابي المقبل إدارة حوار داخلي حول الصيغة السياسية الجديدة التي ستحكم لبنان.
ووفق ما تقدّم، تبدو الخيوط أكثر تشابكاً مما يظهر في العلن. فالكرملين يتقاطع مع نتنياهو على تسهيل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وربما أيضاً على إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا، كون روسيا هي المستفيد الأول عملياً من ذلك. وفي المقابل تبدو طهران أقرب إلى أوروبا لناحية بقاء الديموقراطيين في البيت الأبيض، وهو ما يعني إبقاء خطوط التواصل، ولم لا التعاون، مع إدارة بايدن حول وحول الحرب في المنطقة. لكن الدولة العميقة في واشنطن متفقة مع الحكومة الإسرائيلية وحتى مع العواصم الأوروبية وفي طليعتها باريس حول وجوب إنهاء الجسم العسكري لـ»حزب الله» ومهمّاته الإقليمية، وهو ما يعني تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان، وهو ما تحاول طهران مقاومته بشتى الطرق، ولو أنّها أبلغت الى أطراف دولية عدة أنّها ليست في وارد الدخول في أي حرب أو مواجهة عسكرية مباشرة في المنطقة.
هو الشرق الأوسط المتشابك والمعقّد. وهو ما يوحي في الوقت نفسه أنّ الأمور لم تنضج كفاية للذهاب الى الحلول التسووية، وقد يكون المخفي أعظم.
جوني منير- الجمهورية