“عصر التطبيع” وعرّابته إسرائيل: تغيير الطبقة السياسية والولاء الشيعي بالقوة
بعد حرب الخليج الثانية، والتي أريد لها أن تكون مرحلة تأسيسية لحقبة جديدة في منطقة الشرق الأوسط، برز شعار “الأرض مقابل السلام”. نتجت مشاريع سياسية كثيرة في دول المنطقة المختلفة، ولا سيما في سياق تحييد “دول الطوق” عن الصراع ضد إسرائيل. وفي موازاتها، كان يتم التأسيس لاتفاقية أوسلو. أبرز الإسرائيليون معادلة فعلية مضادة وهي “الأرض لنا والسلام عليكم”. بمعنى الإطاحة بكل هذه الوعود والعهود.
حالياً، يُراد للحرب الإسرائيلية على المنطقة، إذ لم تعد الحرب محصورة في غزّة أو لبنان بل قابلة للاتساع نحو اتجاهات وجغرافيات متعددة، أن تؤسس لحقبة جديدة يمكن تسميتها بـ”الاستقرار لكم والقرار لنا”، و”الطريق إلى الاستقرار يمرّ عبر الدخول في عصر التطبيع” أو إنتاج نظام إقليمي جديدة عرّابته ورائدته إسرائيل، من خلال دمج المنطقة فيها، وليس دمجها في المنطقة، وفق بعض التعابير الإسرائيلية.
مرحلة جديدة
إنها الحرب التي تنتج حروباً كثيرة. فالرسائل المتلفزة التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى اللبنانيين والإيرانيين تحمل الكثير من المعاني والمؤشرات، وتثبت الاستعداد الإسرائيلي لتوسيع الحرب بهدف تغيير وقائع عسكرية وفرض وقائع سياسية جديدة. هنا يبقى لبنان أحد أبرز ساحاتها، التي تنعكس فيها تجليات المسار السياسي الدولي والإقليمي. يظهر بوضوح حجم التكامل ما بين الضغط العسكري الإسرائيلي والضغط الدولي، ولا سيما الأميركي، على مختلف القوى السياسية اللبنانية. بداية من خلال إعطاء ضوء أخضر أميركي للعملية العسكرية الإسرائيلية الموسعة في لبنان. يترافق ذلك مع ضغط سياسي كبير لانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تخرج البلاد من هيمنة حزب الله. سمع المسؤولون اللبنانيون كلاماً كثيراً حول بدء التحضير لمرحلة جديدة سياسياً وفي تركيبة السلطة، وقيل صراحة على لسان ديبلوماسيين بأنه يتوجب التحضّر لمرحلة ما بعد حزب الله كقوة عسكرية، فيما الدفع هو لانتاج تركيبة سياسية شيعية جديدة تتواءم مع توجهات الرئيس نبيه برّي كمرحلة انتقالية.
ضغوط على “الطائفة الشيعية”
كل هذا الضغط يشير إلى السعي لفرض وقائع سياسية جديدة، ليس فقط بناء على الضغط العسكري، بل بناء على أكبر قدر من تدمير البنى التحتية، والقرى والبلدات والمؤسسات، وممارسة أقصى أنواع الضغوط على “الطائفة الشيعية” بالمعنى الحربي، والتهجيري، والسياسي، إلى جانب الضغط اجتماعياً من خلال خلق شقاق مع البيئات الأخرى. وهي حرب مؤجلة لسنوات، وكان لبنان قد مرّ بحقبات ومحطات كثيرة أريد فيها تحقيق متغيرات أساسية على المستوى السياسي.
منذ توسيع نطاق العقوبات على حزب الله، إلى زيادة منسوب الضغط السياسي ما بعد التسوية الرئاسية في العام 2016، مروراً باستقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض، والتي قيل في حينها إنها ضمن مشروع أكبر لتغيير موازين القوى السياسية كلها في لبنان، وصولاً إلى الضغط السياسي الذي مورس بعد انفجار ثورة 17 تشرين والمطالبة بتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين. وفي حينها اتهم حزب الله بأنه القوة الأساسية والفعلية الحامية للطبقة السياسية ولبنية النظام السياسي ككل. تجددت الضغوط والمحاولات بعد تفجير مرفأ بيروت، فتمت المطالبة بانتخابات مبكرة، وحصلت ضغوط لاستقالة رئيس الجمهورية في حينها ميشال عون، وصولاً إلى المطالبة أيضاً بشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين، وهو ما لم يحصل. عندها أيقنت القوى الدولية أن لا سبيل لذلك بسبب قوة الحزب وتقاطع مصالحه مع مصالح القوى السياسية المختلفة. فاختارت منهج التعاطي الواقعي من خلال تمرير ملفات “على القطعة”، ومن خلال تمرير تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وصولاً إلى ترسيم الحدود البحرية والذي اعتبر فرصة جديدة على طريق “التطبيع المتجدد” مع حزب الله، للانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة.
عصر التطبيع
منذ ولاية دونالد ترامب دخلت المنطقة في عصر التطبيع، وهو المسار الذي أرادت إدارة جو بايدن التماهي معه ومواصلته، لتأتي الحرب على غزة في سياق تكريس وفرض هذه الوقائع عسكرياً مع مفعول رجعي يعود إلى العام 1983، من خلال التركيز الأميركي في وسائل الإعلام والسرديات كلها على ضرورة الانتقام من حزب الله على العمليات التي نفذها ضد قوات المارينز والسفارة الأميركية في بيروت. تأخذ هذه الحرب أبعاداً متعددة، أولها ضرب وسحق القضية الفلسطينية، وفي حال وصل ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة فهو سيعمل على ضم الضفة وتعزيز مشروع تهجير الفلسطينيين. وهو الذي قال سابقاً إن مساحة إسرائيل صغيرة ويحق لها أن تكون ذات مساحة أكبر. ثانيها، سعي نتنياهو لجعل إسرائيل القوة الأساسية عسكرياً واقتصادياً في المنطقة. وهذا يوجب ضرب كل الجهات التي تعاديها وتعارضها. ثالثها، انعكاس أثر هذه الحرب بشكل مباشر على لبنان لفرض تغيير وقائع عسكرية وسياسية بشكل كبير، إما من خلال الضغط العسكري والسياسي أو من خلال الرهان على “الوقت والعمر” بالنسبة إلى الكثير من الشخصيات، وهو ما يسري أيضاً على دول عديدة في المنطقة.
منير الربيع- المدن