“الحزب” إذا انتصر وأسطوانة الاستعلاء والتخوين وإسقاط الخصوم: “بكّير” على ماذا؟

نعم، هناك في الداخل اللبناني من يخاف انتصار “الحزب” في هذه الحرب، وهؤلاء ليسوا خونة أو أغبياء إلى الحدّ الذي يجعلهم يراهنون على انتصار عدوٍّ مثل إسرائيل، يقوده مجرم حرب بلا حدود مثل بنيامين نتنياهو.

حين بدأت الحرب الإسرائيلية الشاملة، كان البلد منقسماً سياسياً، ومنقسماً بالأخصّ حول قرار الانخراط في “حرب الإسناد”، لكنّه لم يكن منقسماً من حيث الشعور الوطني العامّ في وجه آلة المجازر الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية ولبنان. كان من الواضح حتى أواخر الصيف تلاشي أثر الانقسامات النفسية التي أورثتها الأحداث المتعاقبة منذ عام 2005، من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلى أحداث 7 أيار 2008، إلى الحرب السورية والحروب الأخرى في طول الإقليم وعرضه.

المشكلة في الحزب وليست في الخائفين

لكن يكذب على نفسه من لا يرى بوادر الانقسام في الصالونات السياسية كما في الشارع. ويظلم حاضر البلد ومستقبله من يتجاهل أسبابه.

المشكلة، في الغالب، ليست في من يخافون انتصار “الحزب”، بل في “الحزب” الذي لم يتعلّم شيئاً من حرب تموز 2006، ولم يفهم شيئاً من خوف الآخرين من تكرار ما جرى بعدها في عقدين، بل أعطى كلّ الأسباب الموجبة للتوجّس من أنّ الانتصار على إسرائيل سيتحوّل مرّة أخرى إلى مشروع لمواصلة الهيمنة على البلد والتحكّم بمفاصل الحكم لعشرين سنة مقبلة.

لم تكن تجربة 2006 مشجّعة. بعد ساعات قليلة من وقف إطلاق النار، خرج مسؤولو الحزب بخطاب تخوينيّ لكلّ المختلفين معه في السياسة الداخلية، وتحوّلت حكومة فؤاد السنيورة التي كان الحزب مشاركاً فيها، من “حكومة مقاومة”، كما وصفها الرئيس نبيه بري خلال الحرب، إلى حكومة تآمر مع الصهاينة والأميركيين على المقاومة. وتمّ تقسيم الشعب بين “أشرف الناس” الذين انتصروا بانتصار المقاومة، وناس آخرين خاب أملهم بهزيمتها.

وكان ذلك مريراً لما انطوى عليه من تزوير للحاضر والتاريخ. فبعض البيئات التي اتّهمها الحزب في موقفها وعاطفتها هي بيئات لها تاريخها في العداء لإسرائيل، ودفعت أثماناً لوقوفها مع كلّ التيّارات المناهضة لها، من مصر الناصرية إلى منظّمة التحرير الفلسطينية، إلى المقاومات اللبنانية بمختلف تلويناتها اليسارية والإسلامية، بما فيها حركة أمل و”الحزب”.

الانتصار على الدّاخل

تحوّل النصر من انتصار على إسرائيل إلى انتصار على الآخر في الداخل. وقيل للشيعة فور انتهاء الحرب إنّ الآخرين (؟) يريدونكم “عتّالين وماسحي أحذية”. وبدأ بعد ذلك استخدام السلاح بشكل مباشر في الحياة السياسية، بدءاً بمحاصرة السراي الحكومي باعتصامٍ مسلّح، وصولاً إلى اجتياح بيروت في 7 أيار 2008، ثمّ عراضة القمصان السود للانقلاب على نتائج انتخابات 2009. ويضاف إلى كلّ ذلك الاستخدام الضمني للسلاح ثلاث مرّات في منع انتخاب رئيس للجمهورية إلا بشروط الحزب، آخرها الفراغ الراهن في سدّة الرئاسة.

ليس الغرض من استعادة هذه المحطّات نكء أسباب الانقسام، بل تفسير القلق السائد من عودة “الحزب” إلى الخطاب القديم. صحيح أنّ بعض القوى الداخلية ربّما تراهن، بحيثيّات مختلفة، على ضعف شوكة الحزب لإعادة التوازن إلى الحياة السياسية، لكنّ “الحزب” يعلن رهانه المقابل حين يقول لهؤلاء: “بكّير كتير”.

“بكّير” على أيّ شيء؟ يقول الحزب إنّه يرفض انتخاب رئيس للجمهورية فيما هو تحت وطأة الضربات التي تلقّاها من إسرائيل، ويسقط ما يجري اليوم على انتخاب بشير الجميّل رئيساً في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ومؤدّى ذلك أنّه يضع الرئاسة بين حدّين: إمّا رئيسٌ يأتي على ظهر دبّابة إسرائيلية، وإمّا رئيس “تأتي به بندقية المقاومة”، على حدّ التعبير الحرفيّ الذي وصف به النائب السابق نوّاف الموسوي انتخاب ميشال عون رئيساً في 2016. وفي هذا إسقاط للمواطنية اللبنانية من أصلها، وكأنّ اللبنانيّين مسلوبو الإرادة والرأي والقرار.

الشّتات السّياسيّ واستحالة الجمع

لذلك أيّة محاولة لجمع الشتات السياسي وتحقيق الحدّ الأدنى من الاجتماع الوطني، علاوة على انتخاب رئيس للجمهورية، ستبقى في حالٍ من تقطيع الوقت والمراوحة ما دام مصير الحرب محاطاً بعدم اليقين في أربعة مسارات على الأقلّ:

1- مجريات الجبهة، حيث يحاول “الحزب”، ومن ورائه إيران، استعادة المبادرة والقدرة على الإيذاء وتعطيل الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية.

2- الضربة الإسرائيلية المرتقبة لإيران، بأهدافها وحجمها، وما قد تستبعه من ردّ إيراني، بالمباشر أو من خلال الميدان اللبناني.

3- الخيارات الصعبة أمام الرئيس السوري بشار الأسد، وما إذا كان بالفعل قادراً على الاستمرار في مسار النأي بالنفس، فيما يواجه ضغوطاً متزايدة من إيران المتغلغلة في قلب ساحته.

4- وأخيراً، الانتخابات الأميركية بعد ثلاثة أسابيع، وما ستتركه من آثار مباشرة على خيارات إسرائيل وإيران.

هذه المسارات ستحدّد مدى الحرب وشكلها ومسارها، وما دام الأمر كذلك فإنّه “بكّير كتير” على “الحزب” أن يقدّم أيّة إيجابية لأشقّائه في الوطن. وكلّ التحايلات اللفظية التي اجترحها نائب الأمين العامّ للحزب نعيم قاسم عن “المسافة صفر” بينه وبين الرئيس نبيه برّي، لا تحجب حقيقة أنّ الأخير ليس مفوّضاً للكلام باسم الطائفة الشيعية إلا في حدود التفاوض على وقف إطلاق النار حصراً، وليس في أيّ ملفّ آخر.

يخشى كثير من اللبنانيين أن يكون ما بعد “البكّير” تحفّز لدى الحزب للعودة الدوغمائية إلى أسطوانة الاستعلاء والتخوين وإسقاط الخصوم. والخطير أنّ هذه الخشية تتسرّب إلى الشارع على شكل قلقٍ من احتكاك مجتمعات النازحين والمجتمعات المضيفة.

وعليه، ما سمعه الحزب بعد حرب تموز 2006 من أنّه ليس مخوّلاً إجراء “فحص دم” لوطنيّة أحد، يجب أن يسمعه الآن: ليس العداء لإسرائيل امتيازاً حصرياً يمتلكه فيلق القدس، ولا يمكن لأحد أن يخطف امتياز “الوطنية اللبنانية” ليجعلها جزءاً من صندوق أدوات الأمن القومي الإيراني.

عباده اللدن- اساس

مقالات ذات صلة