تراجيديا اسرائيلية على الحدود: قوات“الرضوان” لم تتأثر بعمليات قطع الرؤوس الكبيرة
أثبتت الحرب الدائرة بين اسرائيل و”حزب الله” على الحدود الجنوبية اللبنانية أن التفوّق التكنولوجي والاستخباراتي لا يُمكن أن يحسم المعركة، والخسائر التي مُني بها الجيش الاسرائيلي بعدما أعلن منذ أيام بدء غزوه البري المحدود للبنان هو دليل واضح على هذا الاستنتاج.
لا تتحدّث الصحافة الاسرائيليّة كثيراً عن الوقائع التي يشهدها الميدان الجنوبي، وهذا أمر طبيعي عندما تكون نتائج المعارك ليست لمصلحة اسرائيل، فيما يُكثر “الحزب” من إصدار البيانات التي تُعلن عن كمائن وإصابات في صفوف جيشها.
لقد أجمع المحللون ذوو الخلفية العسكرية على أن ما تجريه اسرائيل على الحدود ليس غزواً برياً بالمعنى الشامل بل هو أشبه بـ “الاستطلاع بالنار” وفق المفهوم العسكري، لمعرفة قدرات “الحزب” ومدى جهوزيته وأماكن تواجده وإنتشاره وتحصيناته وأنفاقه، تمهيداً لقصفها وتفجيرها، بغية إبعاده في مرحلة ثانية عن الحدود والهدف إرجاع المستوطنين الاسرائيليين إلى قراهم في الشمال.
لكن المواجهات البريّة التي حصلت في الآونة الأخيرة لا تبدو أنها لمصلحة اسرائيل نتيجة قتل عدد كبير من الجنود، وهذا واقع لا بد من الاعتراف به موضوعياً، حتى بات يصحّ فيه مصطلح “الاستطلاع بالدم” وليس “الاستطلاع بالنار”، ما حوّل الغزو الاسرائيلي إلى تراجيديا على الحدود!
ولعل المعلومات التي يسعى إليها الجيش الاسرائيلي من خلال الهجوم البري المحدود، قد وصل إليها لكن بكلفة عالية، وليس منطقياً أن يفشيها أمام الاعلام لأسباب عسكرية استخباراتية واستراتيجيّة.
نسوق هذا الكلام بعد إطلاعنا على تقرير أميركي أعدّه مركز دراسات عسكرية استراتيجيّة بناء على معلومات أوليّة عن الاستنتاجات والمشاهدات التي خرج بها الجيش الاسرائيلي من الغزو البري المحدود.
يقول التقرير البالغ الأهمية انه على الرغم من مضاعفة القوّة الناريّة الاسرائيليّة بالمقارنة مع حرب تموز 2006، لا يزال “حزب الله” يشكّل خطراً كبيراً في المواجهات البريّة، فهو يعتبرها حرباً وجودية وعناصره مشحونون بالغضب نتيجة اغتيال قاداتهم والمسؤولين العسكريين. ولا يبدو أن المجموعات المقاتلة في القرى الحدودية قد تأثّرت كثيراً بضرب أنظمة الاتصالات ومخازن الصواريخ والسلاح.
ما فعله الجيش الاسرائيلي هو المحافظة على قدرة المبادرة، محدداً منطقة عملياته الحربية على نطاق 30 كيلومتراً حتى نهر الليطاني، وهو يحاول أن يفرغها من المدنيين، لكن ليس واضحاً كم نجح في ذلك، لأن بعض أهالي القرى رفضوا المغادرة!
وما لاحظه الجيش الاسرائيلي أن وحدة “الرضوان” لا تزال فاعلة، إذ استبدلت القيادات التي صفّتها اسرائيل بقيادات الرتب الأقل منها، وهي تقاتل في الجنوب وفق مجموعات صغيرة تتمتع بحرية الحركة على الرغم من ضعف الاتصالات بينها.
تُقدّر الاستخبارات الاسرائيلية، وفق التقرير، أن ما لا يقلّ عن 2300 مقاتل من “الرضوان” يواجهون الجيش الاسرائيلي على الحدود، مدعومين من 20 ألف مقاتل مدرّب في الاحتياط. ولفت التقرير إلى نقطة مهمة جداً وهي أن وحدات “الحزب” المقاتلة في الجنوب تعمل على نحو مستقل عن القيادة المركزية المُطاردة من الاسرائيليين، لذا لم تتأثر كثيراً بعمليات قطع الرؤوس الكبيرة!
وما خرج به استطلاع الجيش الاسرائيلي أن “الحزب” الذي تحوّل إلى ما يشبه الجيش الكلاسيكي في الحرب السورية، عاد في القتال مع الاسرائيليين إلى تكتيك حرب العصابات، التي يستخدم فيها المقاتلون الصواريخ المضادة للدروع مثل “الكورنيت” التي يبلغ مداها أكثر من 10 كيلومترات والصواريخ القصيرة المدى وقذائف الـ “آر بي جي” والألغام، وهذا ما كبّد الاسرائيليين خسائر فادحة خلال أيام قليلة من المواجهات.
وتضمّن التقرير مقارنة بين ما واجهه الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة بمواجهة حركة “حماس”، وما يواجهه اليوم في الجنوب، ومن الواضح أن مقاومة “الحزب” أكثر تطوراً، فالمقاتلون مدربون على نحو أفضل، وخبراتهم أكبر نتيجة مشاركتهم في الحرب الأهلية السورية، ومدرعات “الميركافا”، على الرغم من تطوّرها، لم تحمِ الجنود الاسرائيليين من الصواريخ المضادة للدبابات.
ويكشف التقرير أنه على الرغم من أن اسرائيل اختارت النخبة من المشاة في الجيش من الفرقة 98 التي تتضمن كومندوز ومظليين وقوات خاصة، إلا أن مهمتها كانت صعبة للغاية بهدف الوصول إلى الأنفاق ومخابئ الأسلحة، مع الدعم الهائل من المروحيات الهجومية من طراز “أباتشي” إلى مقاتلات “أف-35” التي لا يملك “الحزب” دفاعات جويّة كافية لنسفها إنما قد تكون لديه قدرة على إبعادها أحياناً.
واعترف الجيش الاسرائيلي بأن مقاتلي “الحزب” يعرفون ساحة القتال أكثر، بتضاريسها وتحصيناتها وأنفاقها التي صنعوها بأنفسهم، عكس غزة التي تُعتبر أرضاً مسطّحة، بل ان الجنوب هو منطقة جبليّة تنتشر فيها القرى المهجورة وتتقاطع فيها شبكة واسعة من الأنفاق، وكل هذا يجعلها أرضاً مثالية للقناصة والكمائن واستخدام العبوات الناسفة المرتجلة المصممة للقتل أو التشويه. والدليل أن العناصر والضبّاط الاسرائيليين الذين سقطوا منذ أيام قليلة اصطادهم “الحزب” في كمائن مُحكمة، ما شكّل صدمة للمسؤولين الاسرائيليين في وقت مبكر من العملية العسكرية المحدودة، وأدرك المسؤولون الاسرائيليون أن “الحزب” سيُرغم الجيش الاسرائيلي على أن يدفع بالدم مقابل كل شبر يدخل إليه!
ويعتبر التقرير الأميركي أن اسرائيل عليها أن تأخذ العبرة من قتال الجيش البريطاني في أفغانستان حيث كان أفراد “طالبان” مدربين تدريباً سيئاً بعتاد رديء. وكان سلاحهم المفضل بندقية هجومية قديمة من طراز AK-47 استولوا عليها كغنيمة من قتلى الجيش الروسي. ولم تكن لديهم مدفعية أو قوة جوية أو دبابات. فيما قاتلت القوات البريطانية مرتدية دروعاً وخوذات ثقيلة، كان أفراد “طالبان” يرتدون الزيّ التقليدي والصنادل، لكنهم تمكنوا من إبعاد القوات البريطانية والأميركية لأكثر من عشرة أعوام، وأوقعوا آلاف الضحايا في هذه العمليات!
ويشير التقرير إلى أن “حزب الله” أفضل تجهيزاً وتدريباً وربما أكثر تحفيزاً من “طالبان”، ومقاتلوه يعتبرون القتال دفاعاً عن وجودهم وأرضهم، وربما يكونون أشرس من مقاتلي “طالبان”.
لكن يخلص التقرير إلى الاستنتاج بأن الجيش الاسرائيلي أيضاً يعتبر المعركة وجودية، وهدفه تأمين الأمن والاستقرار لسكّان الشمال، ولا يبدو، على الرغم من خسائر الأيام الأولى للغزو البريّ المحدود، أنه سيتراجع، ولو كانت فاتورة الدمّ كبيرة، فاسرائيل مستعدة نفسياً لهذا الأمر، وربما الوقائع الأخيرة تكشف أن الحرب ستكون طويلة، وسيعيد الجيش الاسرائيلي النظر في توغّله، وسيقوم بهدم التحصينات والأنفاق قدر ما يستطيع قبل أن يُكمل هجومه البري، مستفيداً من الدعم الأميركي بالأسلحة النوعية التي ستساعده على تحقيق الهدف المنشود. إلا أن ضرب “الحزب” بقوة وسرعة في مسرح العمليات الحدودية لم يعد قائماً، نظراً إلى قدراته القوية التي لا يزال يحافظ عليها. ومن المؤكّد أن ما يحصل اليوم هو تكملة لحرب تموز 2006، ولو بأدوات وأسلحة متطوّرة أكثر.
جورج حايك- لبنان الكبير