دفتر الحساب المفتوح مع الحزب: استنفار سياسي منعاً للشروط الدولية القاسية!
مشهدان جديدان يتشكلان على الساحة اللبنانية. مشهد الجبهة الداخلية في مقابل مشهد الجبهة الجنوبية المفتوحة على مواجهات عسكرية برّية وجوية. يسعى المشهد الداخلي لاحتواء التصعيد الإسرائيلي المتمادي، من خلال إبراز موقف وطني موحد، يقدّم طروحات سياسية واضحة، أولها رفض الحرب والالتزام بتطبيق القرار 1701 وإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب، بالإضافة إلى إعادة انتاج تسوية سياسية تفرز انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة. في المقابل، يسعى الإسرائيليين إلى فرض وقائع عسكرية وسياسية مختلفة. وذلك من خلال الضغط العسكري، توسيع نطاق التهجير لإضعاف البيئة الحاضنة لحزب الله، ودفعه إلى تقديم تنازلات سياسية كبيرة.
شروط قاسية
أن يتنكّر الإسرائيليون إلى القرار 1701، ويسوّقوا الاتهامات الكثيرة حول استعداد حزب الله لاقتحام الجليل، وأنهم بحاجة إلى إنهاء قدراته العسكرية أو نزع سلاحه، ما يعني العودة إلى القرار 1559، فهو لا ينفصل عن الرؤية السياسية التي تحاول تل أبيب فرضها على لبنان، لا سيما أن كل الكلام الإسرائيلي عن الحلول الديبلوماسية أو التسويات ينطوي على شروط سياسية قاسية، يراد فرضها على اللبنانيين بشكل أو بآخر، وبدعم من قبل بعض القوى الدولية التي لديها حسابات كثيرة مع القوى اللبنانية، وربما تجد أن الوقت قد حان لتصفيتها. فبالمعنى العسكري، هناك حساب مفتوح أميركياً، فرنسياً، وغربياً بشكل عام مع لبنان منذ العام 1983، أي منذ تفجير مقر المارينز والسفارة الأميركية والمظليين الفرنسيين. إذ يُتهم حزب الله بتنفيذ هذه العمليات. تعطي هذه الدول ضوءاً أخضر لتل أبيب للمضي قدماً في مسارها العسكري المفتوح والموسع والذي تنتج عنه مجازر، أو اغتيالات أو تصفيات. وغالباً ما يكون التصعيد العسكري يستدعي تحقيق أهداف سياسية.
دفتر الحساب المفتوح
سياسياً تجد هذه القوى الدولية والإقليمية أنها أمام دفتر الحساب المفتوح مع القوى السياسية عموماً وحزب الله خصوصاً، منذ إجهاض الكثير من التسويات السياسية أو المقترحات الدولية التي نجحت الطبقة السياسية المتحكمة في “تجاوزها” والالتفاف عليها منذ ما قبل العام 2019 والانهيار الكبير إلى ما بعده. وهنا أيضاً تستخدم هذه القوى الدولية اليد الإسرائيلية الغليظة والمنفلتة، في محاولة لفرض تنازلات وشروط على القوى اللبنانية المختلفة. ما يسعى إليه الإسرائيليون في مشروعهم الكبير هو تحويل لبنان إلى ما يشبه “المنطقة الآمنة لهم”، أو ما يوّدون تسميته بـ”الضفة الشمالية” لإسرائيل. ويكون لهم تأثير أساسي على مجرياتها وتطوراتها السياسية، أو هي تخيلات تعود بهم إلى حقبة الاجتياح في العام 1982 وقدرتهم في التأثير على تغيير موازين القوى السياسية وتشكيل السلطة فيه، وصولاً إلى استعادة تجربة 17 أيار في العام 1983 كردّ بمفعول رجعي على طرد قوات الأطلسي أولاً، ثم تقهقر الاحتلال الإسرائيلي تالياً نحو “الشريط الحدودي”، وثأراً من إجبار إسرائيل على الانسحاب كلياً عام 2000، وصولاً إلى الفشل السياسي والعسكري عام 2006.
الجبهة الداخلية
في مواجهة هذا المشهد، تتسارع وتيرة التحركات السياسية الداخلية بين القوى المختلفة. بعضها يرتبط بتقديم رؤية وتصور يلاحق الأحداث وتطوراتها، وبعضها الآخر يبقى في إطار آلية التفكير التقليدية. وذلك ينطبق على طرفي الانقسام السياسي في البلاد. فالطرف الأول مثلاً والذي يعقد اجتماعات بحثاً عن تسوية، لا تزال أدواته بشكل أو بآخر تقليدية، من خلال البحث عن تسويات على الطريقة السابقة مع المجتمع الدولي. بينما المؤشرات تفيد بعدم نجاعة هذا الأسلوب. لكن اجتماع هذه القوى وسعيها إلى التقارب مع قوى المعارضة وخصوصاً المسيحية، له أكثر من هدف ومؤشر. أولاً، مد اليد للتعاون في سبيل الوصول إلى تسوية وتفاهم. وثانياً، رص الصفوف الداخلية لإدارة المرحلة بحدّ أدنى من الخسائر، وعدم تكرار الانقسامات العمودية المستمرة، بالإضافة إلى انتاج تسوية متوازنة لا تتيح لإسرائيل النجاح في فرض أي توازنات سياسية أو عزل أي طرف أو مكون.
بالنسبة إلى الطرف المعارض، فهو يعلم أن آليات المعركة وأهدافها تغيّرت، وهو لذلك يطرح مسألة التغيير الجذري في التوازنات وتركيبة السلطة. ولكن في مكان آخر يتم توجيه اتهامات له من قبل خصومه بأنه أيضاً يحاول المراهنة على تكرار تجربة العام 1982، وحصول تغيير في التوازنات والتركيبة السياسية بالانطلاق من الوقائع العسكرية.
الدور القطري..
على الرغم من اختلاف المقاربات، فإن المساعي السياسية داخلياً والديبلوماسية خارجياً، تسعى للوصول إلى إنتاج تسوية لإدارة المرحلة الحالية والتحضير للمرحلة المقبلة. وهو ما تعمل عليه جهات عديدة، وخصوصاً قطر، التي تضطلع بدور أساسي مع إيران، الولايات المتحدة الأميركية، مصر، والسعودية، التي زار وزير خارجيتها فيصل بن فرحان الدوحة، والتقى هناك بالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان. كما عقد لقاءت مع المسؤولين القطريين. وقد كان الملف اللبناني بالإضافة إلى الملف الفلسطيني حاضرين على جدول أعمال المناقشات.
في موازاة الحركة السياسية والديبلوماسية، تتواصل العملية العسكرية الإسرائيلية جواً وبراً. ففي الجو، توسع إسرائيل من استهدافاتها. أما في البرّ فتتلقى الضربات والنكسات من خلال إظهار حزب الله قوة وتماسكاً وقدرة على المواجهات وإلحاق خسائر كبيرة في صفوف القوات البرّية الإسرائيلية.
على وقع هذه المواجهات، يسعى الإسرائيليون أيضاً إلى انتاج مشهد جديد في لبنان، من خلال تقسيم البلد إلى قسمين، أولاً تدمير كامل لجزء منه وهو بنية حزب الله التحتية والعسكرية مع تهجير لبيئته الحاضنة. وثانياً فرض يوميات وإيقاع مختلف لدى القسم الثاني من اللبنانيين الذين يعتبرون أنفسهم غير معنيين بهذه الحرب.
منير الربيع- المدن