هل بإمكان الحزب أن يربح الحرب بعد الخسائر التي هزّت صورته: علامَ يعوّل لقلب المعادلة؟

الحزب “تحت سقف مصالح إيران”

يخوض الحزب حرب 2024 باستراتيجية 2006 وأفكارها وتكتيكاتها. حتى وإن تطوّرت نوعية السلاح في مخازنه. يعتقد أنّ بإمكانه أن يرفع شارة النصر إذا لم توجّه إسرائيل له ضربة قاضية. غير أنّ إسرائيل التي يواجهها تغيّرت، وكذلك إيران التي يرتبط بها عضوياً، وسوريا التي هي عمق إمداداته… فهل بإمكانه ألّا يخسر الحرب؟

هذه الحرب مختلفة كثيراً في الميدان عن حرب 2006. كلّ المقولات التي كان الحزب يردّدها عن نقاط ضعف إسرائيل فقدت صلاحيّتها. كانت إسرائيل دولة تفتقر إلى إرادة القتال، ولا تتحمّل الخسائر البشرية، ولا تتحمّل بقاء مواطنيها في الملاجئ لبضعة أسابيع، وكانت حسّاسة للغاية تجاه الخسائر الاقتصادية. وكانت هشّة أمام سلاح الصواريخ القصيرة المدى، قبل أن تطوّر منظومة القبّة الحديدية. وكانت تعاني من ضعف استخباري، بدليل أنّها لم تصل إلى أيّ قائد ميداني من الصف الثاني في الحزب طوال 33 يوماً من الحرب. وكان جيشها مهتزّاً في عقيدته القتالية، بعد الانسحاب الفوضوي والمذلّ من جنوب لبنان عام 2000. ولذلك يحتاج الحزب إلى أفكار مختلفة للمواجهة.

الحزب “تحت سقف مصالح إيران”

الحزب نفسه هو غير ذلك الحزب الذي خاض الحرب في 2006. المفارقة الفاقعة أنّه اكتسب قيمته الاستراتيجية، منذ التأسيس، من كونه “فاعلاً خارج إطار الدولة”. تُسلّطه إيران على منافسيها الدوليين والإقليميين في رقعة المنطقة من دون أن تتحمّل مباشرة عواقب أفعاله. كذلك فعلت في جنوب لبنان وفي سوريا والعراق واليمن والكويت والسعودية، وحتى في بيونس أيرس. غير أنّ هذا اللاعب المتحرّر كبر ونضج كثيراً، حتى وجد نفسه في 2024 تحت سقف مصالح إيران وعلاقاتها الدولية، بشكل مباشر. وهذا عكس علّة وجوده.

مأزق الحزب في هذا الظرف بالذات أنّه بات يُنظر إليه في الساحة الدولية، لا كلاعب كغيره من اللاعبين المتحرّرين من سقوف الدول والتزاماتها، بل كعضو في هرميّة عسكرية ترتبط مباشرة بطهران. وبات عليه أن يتقيّد بسقفها السياسي فيما تفاوض الإدارة الأميركية الديمقراطية وتشاركها هدفها المتمثّل بقطع الطريق على وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. غير أنّ ذلك لا ينفي عن الحزب واقع أنّ تبعات ضربه بالنسبة إلى إسرائيل ليست كتبعات ضرب إيران مباشرة. بات الحزب مقيّداً بالسقف الإيراني فيما إسرائيل محرّرة من أيّ سقف.

غير أنّ هذه ليست مشكلة الحزب الوحيدة. فالقيد السياسي (الإيراني) ليس وحده ما أخلّ بميزان الردع منذ أن بدأت الضربات الإسرائيلية الكبرى تتوالى من دون ردّ. بل إنّه مكبّل عسكرياً وتكنولوجياً بالتفوّق الإسرائيلي الواضح، ومكبّل استخباريّاً بالانكشاف الأمنيّ الكبير نتيجة لما يبدو أنّه اختراق إسرائيلي كامل لسلاح الإشارة في الحزب، ومكبّل بعدم الإجماع الداخلي بنسبة تتجاوز الـ70 بالمئة على الأقل على الحرب.

فعلامَ يعوّل لقلب المعادلة؟

ربّما التعليق الوحيد الجدّي من الحزب على ما تعرّض له من ضربات قاسية في “أسبوع الأهوال” هو ذلك المقطع القصير الذي نشره من محاضرة للقائد العسكري إبراهيم عقيل قبل اغتياله بوقت ليس بطويل.

قال عقيل إنّ إسرائيل حقّقت على المستوى التكتيكي “إنجازاً من أعظم الإنجازات”، بدخولها غزة بأكملها. لكنّه يناقش بأنّ “الانتصار العسكري” الإسرائيلي يبقى خارج الإطار الاستراتيجي الذي ترسمه إسرائيل لنفسها.

لا شكّ أنّ نشر هذا المقطع يرمي إلى إسقاط مماثل على ما يجري في لبنان. يرمي الحزب إلى القول إنّ اغتيال فؤاد شكر وإبراهيم عقيل وعشرات القادة وتفجيرات البيجر والأجهزة اللاسلكية “إنجازات كبرى”، لكنّها تكتيكية، وربّما عمليّاتية. لكنّها ليست مشتقّة من الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية، ولن توصل إليها في النهاية. وإنّ الفرصة لم تفُت لقلب المعادلة الاستراتيجية والفوز بالنقاط.

لكن عن أيّة استراتيجية يتحدّث؟

أعلن الحزب النصر الاستراتيجي في حرب 2006 على الرغم من العدد الكبير من الشهداء والدمار الهائل الذي لحق بالمنازل والبنية التحتية. وأقرّ له بذلك معظم الطيف السياسي في لبنان وإسرائيل، لأنّه كان أكثر فاعلية وواقعية في تحديد هدفه النهائي من الحرب، والترويج لمقولة إنّه “يربح إذا لم يخسر”، وإنّ “إسرائيل تخسر إذا لم تربح”. لذلك المعيار الأهمّ للانتصار كان القدرة على الاستمرار في إطلاق الصواريخ حتى آخر ساعة قبل وقف إطلاق النار.

وبالفعل، انتصر الحزب، من منظوره على الأقلّ، لأنّه حافظ على بنيته العسكرية والتنظيمية، ودوره الإقليمي كأكبر قوّة فاعلة من خارج إطار الدولة في المحور الإيراني. وأتاح له ذلك أن يعزّز هيمنته على منظومة الحكم في لبنان. وترجم ذلك بالسيطرة على بيروت في 7 أيار 2008، وفرض أعراف دستورية جديدة في “اتفاق الدوحة”، تمكّن من خلالها من تعطيل مفاعيل نتائج الانتخابات النيابية عام 2009.

أما زال بإمكان الحزب أن يربح الحرب الراهنة بعد الخسائر التي هزّت صورته؟ هل من الواقعي حقّاً أنّ تلك الخسائر ما زالت في حدود التكتيك؟

“تواضع” أهداف إسرائيل

يقول الحزب على طريقته إنّه لم يسقط بالضربة القاضية، وإنّ الفرصة ما زالت قائمة لاستجماع القوى والفوز بالنقاط. ولتصدق هذه المقولة لا بدّ من تعريف الأهداف الاستراتيجية لديه ولدى إسرائيل.

إسرائيل تبدو أكثر واقعية ممّا كانت في 2006. لم تعلن هذه المرّة أنّ الهدف من الحرب القضاء على الحزب أو تجريده من السلاح. بل تعلن أنّ الهدف إبعاد الحزب إلى ما وراء الليطاني وتأمين جبهتها الشمالية وإعادة النازحين إلى مستوطناتهم. في المقابل، أعلن الأمين العامّ للحزب هدفاً واحداً هو وقف إطلاق النار في غزة. وهذا هدف أقلّ، بحدّ ذاته، من أن تغامر من أجله إيران بما بنته في شرق المتوسّط على مدار أكثر من أربعة عقود.

حين يتعلّق الأمر بالاستراتيجية، لا يمكن الفصل، ولو نظريّاً، بين إيران والحزب. وكلّ ما يُقال عن استعداد طهران لبيع الحزب من أجل مكاسب أخرى مجرّد وهم. فالحزب ليس مجرّد فرع إقليمي لبنك دولي، بل هو جزء عضوي من الهرميّة الإيرانية، يمكن أن تتغيّر وظيفته، لكنّه لا ينفصل عن جسده. لذلك التمييز بين الوقوف مع الحزب في المواجهة مع إسرائيل والوقوف ضدّه في حسابات الإقليم والداخل هو مجرّد تمييز نظريّ قيَميّ لا معنى له في الاستراتيجية وفي نظريّة الأمن الوطني العامّ.

هدف الحزب: الخروج سليماً

ما كان لدى الحزب من أهداف حين دخل الحرب في 8 تشرين الأول 2023 مختلف عن أهدافه اليوم. هدفه الأوّل اليوم مماثل في الجوهر لهدفه في 2006: أن يخرج من هذه الحرب سليماً كقوّة عسكرية مهيمنة على منظومة الحكم في لبنان وتلعب الأدوار الإقليمية الموكلة إليها من طهران. ويمكن إذّاك ترميم مخزون السلاح وإعادة بناء الكوادر العسكرية. لذلك أيّ اتفاق لوقف إطلاق النار يجب، من منظور الحزب، أن يراعي لاءات أربع:

1- ألّا يفقده القدرة الاستراتيجية على التهديد بإيذاء إسرائيل، لأنّ هذا هو أهمّ أصل استراتيجي تحوزه إيران من وجود الحزب في هذه البقعة الجغرافية المسمّاة جنوب لبنان.

2- ألّا يقدّم تنازلاً استراتيجياً يهزّ صورته أمام جمهوره الذي هو ركيزة صفته التمثيلية في النظام السياسي.

3- ألّا يُمسّ بسلاحه وبقدرته على التسلّح، لأنّه ركيزة هيمنته على لبنان ودوره الإقليمي.

4- ألّا يُمنع من ممارسة أدواره خارج الحدود اللبنانية، لا سيما في سوريا.

الإشكال أنّ الحزب لم يعد قادراً على إنتاج هذه اللاءات وحده، ولا بالاستناد إلى الدعم من طهران والإمدادات عبر سوريا، كما فعل في 2006. بات محتاجاً إلى الطيف اللبناني الداخلي، وهذا الطيف بمعظمه يعيش ألم الجنوب والبقاع وأهلهما، لكنّه غير معنيّ بهذه اللاءات.

لا يمضي الوقت لمصلحة الحزب في هذه الحرب. بل إنّ كلّ ساعة تمرّ في ظلّ القصف تأكل من رصيده ومن ثقة جمهوره به. ثمّة فسحة قصيرة من الوقت قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الحرب، قد تكون كافية لصياغة فكرة وطنية مبسّطة توضع في بضع جُمل يقابل بها لبنان المجتمع الدولي.

لن يولد وقف إطلاق النار على طريقة الـ 1701، حين استعمل الحزب الحكومة اللبنانية للتفاوض ثمّ رماها في سلّة المهملات فور انتهاء الحرب.

يحتاج الحزب إلى سقف لبناني يستطيع اللبنانيون رفعه على أعمدة الطائف، ووحدة الدولة والسلاح. وإلّا فسيدفع اللبنانيون جميعاً ثمن إصرار الحزب على البقاء تحت السقف الإيراني.

 

عباده اللدن- اساس

مقالات ذات صلة