الحزب كلّه على حدّ السكّين وضاقت الخيارات: هل “الحلّ العسكريّ” ممكن مع إسرائيل؟
هل ننجو بعد بلوغ حافة الهاوية هذه المرّة؟
كشفت الأيام الأخيرة عن التفوّق الإسرائيلي الساحق. وفي الوقت الذي ينصرف فيه الحزب واللبنانيون لتشييع ضحاياهم، يترقّب الجميع الأيام المقبلة وما تحمله من أخطار على الحزب والجنوب ولبنان. هما عقليّتان مختلفتان تتحكّمان بالانقسام وبالمصائر وسط الاختلاف الشاسع في الأهداف والأولويّات. فهل ننجو بعد بلوغ حافة الهاوية هذه المرّة؟ وهل تكتفي “عقلية المقاومة” هذه المرّة ببطولة الاستشهاد أم لا بدّ هذه المرّة أيضاً من بطولة الانتصار ولو كان ذاتيّاً وإعلاميّاً؟
ما عاد من الممكن التوفيقُ بين العقليّتين:
– العقلية العقائدية.
– وعقلانية المصلحة الوطنية والإنسانية.
لا يستطيع الحزب التراجع، لكنّه ما عاد يستطيع التهديد بالحرب الشاملة.
إسرائيل وحدها هي التي تقول الآن:
– إمّا التراجع والانسحاب إلى ما وراء الليطاني من أجل إعادة المهجَّرين من مناطق شمال فلسطين المحتلّة.
– أو الحرب الشاملة لإخراج الحزب بالقوّة من المنطقة الحدودية.
الحزب كلّه “على حدّ السّكّين”
منذ شهر تشرين الثاني 2023 قالت كلّ التقارير إنّ الجيش الإسرائيلي يملك تفوّقاً ساحقاً ليس في الحرب على غزة فقط (حيث كانت حماس ما تزال تقاتل لمنع الإسرائيليين من احتلال كامل القطاع) بل وفي حرب الإسناد من جانب الحزب بجنوب لبنان على شمال فلسطين المحتلّة.
كان الحزب يردّ دائماً أنّه مستمرّ في الحرب دون حدود الحرب الشاملة، وأنّه ما استخدم بعد كلّ قدراته المتفوّقة أو الوازنة. وفي الشهور التسعة الماضية فقد الحزب المئات من مقاتليه. لكن في الشهرين الأخيرين وإلى جانب الاغتيالات المنتقاة التي تشير إلى انكشاف كبير من جانب الحزب، فقد جاءت الأسابيع الأخيرة بواقع تمكّن العدوّ الصهيوني من إثبات اختراقه الكامل لسائر قوى الحزب وقدراته، وتعطيل الآلاف من الكوادر، والاقتدار على إزاحة معظم القيادات العسكرية والأمنيّة للحزب.
هكذا صار الحزب كلّه على حدّ السكّين، وضاقت الخيارات. فحتى الاستمرار في القتال المنخفض الوتيرة صار عسيراً وصعباً، وبخاصة أنّ الأمر صار محصوراً بمنع السكّان المستوطنين من العودة إلى مستعمراتهم في شمال فلسطين. أمّا في الطرف المقابل فهناك قتلى كلّ يوم، فضلاً عن هجرة حوالى 150 ألف لبناني من الجنوب. وقد كان المأساوي أنّ إحدى العائلات المهجَّرة من الجنوب لقيت حتفها في الضربة الأخيرة على الضاحية!
قتلى الحزب… ودماء الأميركيّين
لا داعي للعودة إلى تفصيلات الانكشاف الفظيعة، والقدرات العجائبية للتكنولوجيا الإسرائيلية أو الأميركية أو تكنولوجيا الطرفين معاً. بل المهمّ العودة إلى الافتراق شبه الكامل بين العقليّتين أو الوعيين.
عندما كان الحزب ينشر رؤيته الخاصة لإنجازات الضحايا العسكريين، ما ذكر بالطبع إسهامهم في تفجير السفارة الأميركية وفي خطف الرهائن وفديتهم وفي غزو ثكنات القوات الأميركية والفرنسية في مطالع الثمانينيات من القرن الماضي (التي ذكرها الأميركيون). تلك القوات جاءت بين 1982 و1985 لتأمين انسحاب الإسرائيليين من بيروت وضواحيها، وحماية المخيّمات الفلسطينية من الهجمات الإسرائيلية، وتثبيت وقف النار.
ما ذكره الحزب في سِيَر مقاتليه أنّهم قاتلوا في سورية (من 2011 حتى الآن). وقد كان من حسن الحظّ أنّهم لم يذكروا قتالهم أو قتال بعضهم في غزوة بيروت (2008) التي سمّاها زعيم الحزب حينها يوماً مجيداً.
الاعتزاز بالمشاركة في الحرب السّوريّة
لقد بلغ من اعتزاز الحزب بالمشاركة في الحرب السورية أنّهم ذكروا لذلك سببين:
– حماية المزارات المقدّسة في السيّدة زينب وغيرها.
– والأمر الثاني منع الإرهابيين من دخول لبنان!
وكان من حسن الحظّ أيضاً أنّهم لم يذكروا إسهام الحزب في إعادة “الإرهابيين” إلى سورية بالباصات بعد خمس أو ستّ سنوات من اعتصام مئاتٍ منهم في جبال عرسال والمناطق المجاورة.
ماذا يعني ذلك؟
ذلك يعني أنّ عساكر الحزب ليسوا متطوّعين عقائديين (يأتمرون بأمر الوليّ الفقيه) فقط، بل هم في الواقع مثل جيش نظامي، أي هناك قدرة على توجيهه من القادة إلى أيّ مكان، بما في ذلك قتال الشعب السوري لحماية نظام الأسد حليف الجمهورية الإسلامية في الماضي والحاضر.
بعد دخول الحزب للقتال في سورية دخلت الميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية، وهؤلاء جميعاً باقون حتى الآن.
ذهب “خبراء” الحزب وتقنيّوه إلى العراق وإلى اليمن. ودائماً لنصرة الميليشيات المتأيرنة في كلّ البلدان والسيطرة على الأرض والسكّان. وهكذا يضاف إلى العقلية الانفصامية والمذهبية، الاتّباع الدائم لأوامر الحرس الثوري والوليّ الفقيه ضدّ شعوبهم وأهلهم وناسهم الذين جرؤوا على رفض الخضوع للتسلّط الميليشياوي والمذهبي.
سيطرة إيران على 4 عواصم عربيّة
الجمهورية الإسلامية يقول مسؤولوها منذ عام 2011 إنّ ميليشياتهم (سُمّيت أخيراً محور المقاومة) تسيطر على أربع عواصم عربية: دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء.
عندما كان زعيم الحزب يعلن التزامه بعد كلّ ضربة إسرائيلية باستمرار حزبه في حرب الإسناد ومحور المقاومة، استثنى إيران وبشار الأسد ليس من محور المقاومة، بل من مشاركتهما في الحرب لظروفهما الخاصة.
وأخيراً قالت إيران عدّة مرات آخِرها على لسان رئيس الجمهورية الإيرانية وقبل ذلك على لسان خامنئي إنّه لا حرج في التراجع التكتيكي، وإنّ إيران آمنة من الهجمات (!) لأنّها بلغت في القوّة “الدفاعية” القدرة على دفع أيّ عدوان.
ما استطاعت إيران تحصين نفسها حقّاً. لكنّها قالت إنّها لا تريد الحرب الشاملة! ونصر الله أيضاً وأيضاً لا يريد الحرب الشاملة. لكنّه يمارس حرب الصمود بالكاد. فقد أثنى على العراقيين والحوثيين الذين يخوضون معه تلك الحروب. لكنّه ما ذكر اللبنانيين ولا المهجَّرين من الجنوب الذين يخوض الحزب الحرب من بين بيوتهم.
الإسرائيلي يخوض حرباً شعواء لردع الحزب، وليعيد المستوطنين إلى الشمال، وأمّا الحزب فلا يُظهر اهتماماً بمدنيّيه ولا حتى بمذهبيّيه.
مصير لبنان: سوريا أو اليمن أو غزّة…
إيران تخوض هجوماً استراتيجياً منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 لتخريب الجوار العربي والاستيلاء عليه ولو مهدَّماً. والحزب أداةٌ رئيسية في ذلك.
أمّا جبهة فلسطين فهي “مسمار جحا” التي كسبت إيران لها حماس بعد الجهاد الإسلامي. وقد كانت تستخدم تارةً حجّة تحرير جنوب لبنان بواسطة الحزب، وتساوم بهذه الوسيلة الولايات المتحدة. لكنّ رئيس إيران قال أخيراً إنّه والأميركيين “إخوة”.
إذاً الأمر لا يقتصر على اختلاف عقليّتين، بل على الاختلاف الشاسع في المصالح. إذ إنّه مع التيقّن الإسرائيلي من التفوّق صارت هناك أخطار حقيقية على وجود لبنان وكيانه. فبهذا الأسلوب لن تقوم دولة فلسطينية بالقوّة، ويوشك أن يكون مصير لبنان مثل سورية واليمن.. والعراق أو غزة أو أسوأ.
يسأل اللبنانيون من زمان وليس الآن فقط: ما هي المصلحة الحاكمة في مناطحة العدوّ الصهيوني على حساب شعب لبنان وجنوبه؟
في عام “الانتصار الإلهي” 2006 استولى الصهاينة على 6 كيلومترات مربّعة جديدة داخل حدود لبنان وما يزالون في بعضها حتى اليوم. وقد لا يعمدون إلى احتلال الأرض هذه المرّة، لكن قد لا يبقى أحد من اللبنانيين أمناً في تلك المنطقة.
سقوط “الحلّ العسكريّ” مع إسرائيل
من زمان وبعد خروج مصر عام 1979 من الجبهة مع إسرائيل، ما عاد الحلّ العسكري مع إسرائيل وارداً بجدّية. وصحيح أنّ أوسلو فشلت بمساعٍ من الطرفين: الإسرائيلي وحماس تدعمها سورية. قد يكون من حقّ الفلسطينيين، أيّاً كانت تسمية جبهتهم، الاستمرار في المنازلة على الأمل الذي لا يمكن الشفاء منه. وقد خربت غزة على هذا الأمل أو غيره. لكنّ الحديث الآن ليس عن النضال الفلسطيني ومبرّراته، بل عن المصلحة والعقلانية في المغامرة بتخريب لبنان أو جنوبه، دون أن يفيد ذلك في إسناد غزّة.
صعبٌ جدّاً على الحزب وإيران بعد الخسائر الكبرى أخيراً والحروب الطويلة من أجل إيران، الاعتراف بضياع الهدف أو تعذّره، بالتراجع حالياً على الأقلّ إلى ما وراء الليطاني. لكنّ مصير لبنان على المحكّ، والشيعة بالذات ومنهم بيئة الحزب وعناصره هم أهل المعاناة الكبرى. وقد كانت المفاوضات ممكنة عندما جاء الموفد الأميركي آموس هوكستين آخِر مرّة إلى لبنان. لكنْ جرى تفويتها كالعادة على الرغم من أنّهم رسّموا الحدود البحرية مع إسرائيل من قبل، وكان بوسعهم مع عدم ضياع ماء الوجه أن يحصلوا على شيء في الحدود البرّية، فيكونوا قد حرّروا أيضاً.
الطغيان الإسرائيلي حالياً لا حدود له. وما كانوا يقبلون به بالأمس قد لا يقبلون به اليوم أو غداً. مساكين الفلسطينيون ومساكين اللبنانيون، وكلّ ضحايا المطامع الإيرانية الآخرون.
رضوان السيد- اساس