تسونامي من الجرحى الذين تجاوز عددهم 2750: ذاكرة انفجار المرفأ

لن ينسى اللبنانيون بعد ظهر الثلاثاء 17 أيلول/سبتمبر 2024، عندما تعرض لبنان لأول حرب سيبرانية من نوعها في تاريخه، نفذتها إسرائيل ضد الآلاف من عناصر “حزب الله” ممن يقتنون أجهزة “بايجر” اللاسلكية للتواصل في ما بينهم. وهو ما أسفر عن تسونامي من الجرحى الذين تجاوز عددهم 2750، بينهم مدنيون في بيروت والجنوب والبقاع، وتسعة شهداء بينهم طفلة.

ولم يقتصر التعاطف مع ضحايا المأساة الجديدة التي تضاف إلى مآسي اللبنانيين السابقة، على البيئة الموالية لـ”حزب الله” فقط، كما الحال في حوادث سابقة، بل كانت المأساة على مستوى الوطن. فبعد عام على بداية الحرب التي عمّقت الانقسام الداخلي ضد “حزب الله”، وجد اللبنانيون أنفسهم موحّدين على مستوى إنساني أمام حجم الجريمة الاسرائيلية، وهو ما تُرجم في المواقف التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي.

وأطلق أكثر المعارضين شدة لـ”حزب الله”، دعوات للتبرع بالدم، معتبرين أن الوقت ليس لتسجيل النقاط السياسية بل للنداء الإنساني، علماً أن ذلك لم يُلغٍ التباين السياسي حول الموقف من الحزب والحرب. وهو ما تجلى بوضوح على لسان ويليام نون، شقيق ضحية انفجار مرفأ بيروت، جو نون، وقد شبّه مشهد المستشفيات المكتظة بالجرحى اليوم بمشهد المستشفيات في 4 آب/أغسطس 2020، معلقاً: “كل يراها على طريقته”.

هجوم سوريالي

وتداول اللبنانيون سيناريوهات عديدة حول ماهية الهجوم، أقربها للمنطق، ما جاء على لسان المتعاقد السابق بوكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودن، الذي كتب في حسابه في “إكس”، عن نظرية تفخيخ أجهزة “بايجر” اشتراها “حزب الله” مؤخراً لتفادي استخدام الهواتف المحمولة، مرجحاً الا يكون الحادث نتيجة اختراق أو عملية قرصنة.

ورغم مقتل نجلَي النائبين عن “حزب الله”، علي عمار وحسن فضل الله، وإصابة ابن مسؤول الارتباط والتنسيق في الحزب، وفيق صفا، اتجهت أنظار اللبنانيين بعد ساعات من عملية “البايجر”، إلى نوعية الهجوم، واصفينه بالسوريالي، محاولين استذكار مشاهد أفلام الخيال العلمي الأقرب إليه.

ولعل العبارة الأدق التي وصّفت المشهد، هي التسجيل الصوتي الذي انتشر بعد دقائق على تفجير آلاف أجهزة “البايجر” في وقت واحد، والذي يقول فيه أحد الأشخاص بنبرة مرتجفة: “في شي مش طبيعي عم يصير بالضاحية. ما عم نشوف غير عالم شي عم يتشوه عم بتطير أصابيعه”.

واتّحد مؤيديو للحزب ومعارضوه، في حالة من الذهول والصدمة الممتزجة بالرعب. فللمرة الأولى، منذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كانت “نوعية” الهجوم هي الحدث، بدلاً من أهمية الشخصيات الحزبية المستهدفة.

وتحوّل جهاز “البايجر”، من جهاز تواصل لاسلكي يستقبل رسائل قصيرة جداً أو أرقام هواتف، إلى سلاح قاتل، علماً أن الحزب استعمله أصلاً لتفادي استخدام الهاتف المحمول، بوصفه “عدواً”، بحسب تعبير أمين عام “حزب الله” حسن نصرلله، خصوصاً مع تزايد عمليات الاختراق وبروز الأمن الرقمي كضرورة في السياسة المعاصرة.

وفي حين توقع اللبنانيون تصعيداً كبيراً أو حرباً شاملة تدفع إليها اسرائيل، وجدوا أنفسهم أمام خرق سيبراني، سوريالي، أشبه بمسلسلات الخيال العلمي، وأقرب إلى ما يتحدث عنه الخبراء باستمرار عن تطور الحروب من شكلها التقليدي إلى أشكال أخرى جديدة.

بين 4 آب و17 أيلول

وفيما تتمتع الأفلام عادة بنهايات سعيدة، بعكس حياة اللبنانيين، شبّه كثيرون مأساة اليوم بمأساة 4 آب/أغسطس عندما انفجر مرفأ بيروت. وركز المعلقون في السوشال ميديا على نقاط عديدة لهذه المقارنة. أبرزها حجم الضرر الكبير. ففي لحظة واحدة من الاعتداء السيبراني، سقط آلاف الجرحى، كما في انفجار مرفأ بيروت.

وأشار معلقون إلى غموض الحادث وعدم تبنيه من قبل أي جهة. فاسرائيل لم تعترف بأنها المتسببة في الهجوم. كما أن مستشار رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، أوفر فولك، اعترف بذلك في تغريدة عبر منصة “إكس”، قبل أن يزيلها بعد حين.

وتحدث آخرون عن النطاق الجغرافي واسع النطاق للحادث الأمني. إذ طاول مختلف المناطق اللبنانية، وتركز في الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع والجنوب. أما نقطة التقارب، سياسياً، فركز فيها المعلقون على فكرة ضعف الدولة اللبنانية، سواء من حيث الاستجابة للكارثة، خصوصاً أن الدولة اللبنانية على دراية بإمكانية الذهاب في أي لحظة لحرب شاملة مع إسرائيل، أو من حيث عدم إتخاذها إجراءات لتفادي الكارثتين.

ويعني ذلك أن الدولة اللبنانية لم تمنع عن اللبنانيين مأساة انفجار نيترات الأمونيوم في المرفأ، ولا نجحت ديبلوماسيتها في إبعاد شبح الحرب الشاملة عن لبنان. الحرب التي لا إجماع وطنياً حولها، ولا يُعتبر البلد بمؤسساته المترهلة جاهزاً لها.

التبرع بالدم أولاً

إلى ذلك، كان معظم اللبنانيين يعلق على نحو براغماتي، مع حس إنساني طاغٍ على الاستجابة للكارثة. وتجلى هذا في دعوة أبرز خصوم الحزب من ناشطين سياسيين، للاستجابة الانسانية للكارثة على قاعدة “تأجيل” تسجيل النقاط ضد حزب الله، لأن الوقت الآن “للتبرع بالدم”.

ورغم إنسانية الموقف، بقي نموذج اللبنانيين الذين لم يطيقوا الانتظار إلى أن تبرد المأساة الإنسانية، فاستغل البعض تصريحات النائب نواف الموسوي ضد بشير الجميل للشماتة بلبنانيين لقوا حتفهم في هذه العملية، واصفينهم بـ”الإيرانيين”، ما جعل معلقين في مواقع التواصل يعتبرون هؤلاء بلا ضمير وأن هذا الهجوم فرصة لـ”فرز” الأخلاقيين عن غير الأخلاقيين.

أما المفارقة فتبقى بأن الشامتين، غاب عنهم أن العدو الاسرائيلي الذي يخترق صفقة شراء لأجهزة “بايجر”، قادر على اختراقات أمنية سيبرانية مشابهة وربما أخطر، في بلد يتربص به عدو لا يفرق بين “حزب الله” والشعب اللبناني، ولا تعير الطبقة السياسية فيه للفضاء العام أي أهمية، إلا على مستوى الفساد والمحسوبيات، ولو على حساب سلامة اللبنانيين.

المدن

مقالات ذات صلة