مشروع مستورد من إيران لم يجلب سوى الذلّ: أي لبنان يُريد المفتي قبلان؟
لم يسبق للبنانيين أن رأوا رجال دين، يذهبون إلى ما لا حدود له في التبعية لمشروع سياسي معيّن، فكيف إذا كان هذا المشروع لا يشبه لبنان، بل مستورد من إيران، وقد أقحم الوطن الصغير في حروب ونزاعات ليست لمصلحته ويكاد يدمّر كل المؤسسات الرسمية ويعطّل كل الاستحقاقات الدستورية؟ نقصد المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان الذي كسر كل الأعراف التي تميّز رجال الدين اللبنانيين من كل الطوائف من حيث روح السلام والترفّع والأبوّة الروحيّة والاعتدال، وبالتالي يبدو كأي رجل سياسي في جبهة الثنائي الشيعي، يُهاجم الآخرين ويخوّنهم مستخدماً لغة استعلائية صادمة.
من هو المفتي قبلان؟
الشيخ أحمد قبلان هو رجل دين شيعي، نجل الراحل الشيخ عبد الأمير قبلان الذي كان رئيساً للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، من بلدة ميس الجبل الجنوبية في جبل عامل. بدأ دروسه الحوزوية في لبنان ثم انتقل إلى ايران حيث استكمل علومه الدينية، وحاز شهادة في الحقوق من الجامعة اللبنانية، ولا شك في أن الشيخ أحمد قبلان حضّر نفسه ليكون وريثاً لوالده، وبالفعل عيّنه المجلس الشيعي الأعلى المفتي الجعفري الممتاز.
أما العارفون بكواليس الطائفة الشيعية الكريمة، وبعضهم سعى إلى تصويب مسار العمل في مؤسساتها الدينية، فاصطدموا بجدار ثنائي “حزب الله” وحركة “أمل” الذي تقاسم النفوذ في هذه المؤسسات بعد غياب الامام المغيّب موسى الصدر ورحيل الشيخ محمد مهدي شمس الدين. ولم يكن الشيخ عبد الأمير قبلان ولا نجله أحمد بعيدين عن توجيهات الثنائي ومصالحه، إذ يُسخّر الأخير كل المؤسسات الدينية والطبيّة والخيرية من أجل تلبية مصالحه ويتجاهل مصالح أبناء الطائفة الآخرين، وفق معارضيه.
ويذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك، بأن المفتي قبلان قليل العلم والتحصيل بالمقارنة مع رجال دين شيعة آخرين، ولا يستحق أن يكون في هذا المنصب الرفيع أي الافتاء الجعفري، إلا أن معيار التبعية السياسية للثنائي حلّ مكان معيار الكفاءة.
من هنا يُصبح الدفاع المستميت للمفتي قبلان عن طروح “حزب الله” مفهومة ومبررة، بحيث يحمّلونه ما يشاؤون من مواقف وخصوصاً ما لا يرغبون في قوله مباشرة، فيتلقّف منه كل شيء ويُصرّح بما يُملى عليه.
أما مؤسس حركة “تحرّر من أجل لبنان” الدكتور علي خليفة، أحد أركان المعارضة الشيعية، فيرى أن قبلان يستتبع دار الإفتاء الجعفري لأهواء الثنائي وخياراته، وهو يقترف بذلك خطيئتين: الأولى يجعل نفسه مفتي السياسة بدلاً من أن يكون مفتي الطائفة، والثانية أنه في موقفه السياسي الذي يتبنّى أدبيات الثنائي وتكتيكاته ينتحل صفة النطق بإسم أبناء الطائفة الشيعية الذين يرفضون خطاب الثنائي الحزبي الشيعي ولا هم محسوبون عليه.
ويلفت خليفة إلى أن الشيعة موجودون ويعبّرون عن أنفسهم وأعدادهم في تزايد ولا يمثّلهم خطاب قبلان، ولو خيّروا بين وحدة الطائفة الشيعية أو الوحدة الوطنية اللبنانية، فسيختارون الوحدة الوطنية، وكثر منهم يلتقون مع خطاب رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ومشروع الدولة الحديثة والسيادة الوطنية والحريات.
ويؤكّد أن المعارضين الشيعة وخصوصاً من الجيل الجديد لا يمثّلهم خطاب المفتي قبلان الذي يريد مجتمعاً بلا دولة مع ما يجرّه هذا الطرح من ويلات. والمؤسف أنه يغتال التاريخ السياسي والثقافي للشيعة لقاء تبعيته المصلحيّة واستتباعه النفعي، بل هو ينقلب على القامات الكبيرة للطائفة أمثال السيد موسى الصدر الذي حذّر مراراً وتكراراً من ارتباط اللبنانيين الشيعة بإيران، ودعا إلى إقامة الشرعية وتذويب الدويلات أياً كانت صيغتها، والإمام محمد مهدي شمس الدين الذي رفض استتباع الشيعة لمشاريع عابرة لأوطانهم، داعياً اياهم إلى الانخراط في قضايا مجتمعاتهم وأقوامهم، فأين المفتي قبلان من ثقافة هؤلاء وإرثهم وطروحهم؟
لا داعي للدخول في تفاصيل مواقف قبلان التي أصبحت معروفة من الجميع وهي لا تختلف عن مواقف الثنائي الشيعي الخطرة على هوية لبنان.
مشكلة قبلان ليست مع فئة حزبية أو طائفة معيّنة، بل مع كل الشعب اللبناني الذي يشعر أن رجل دين يكاد يكون على رأس الهرم الديني للطائفة الشيعية تغيب عنه الأولويات التي تعتبر بديهيّات لدى معظم شعوب العالم من قبيل السيادة والاستقلال والاستقرار والازدهار والعدالة والحرية ونمط العيش… وعندما تتحوّل البديهيات أو مصادر الخطر إلى موضع خلاف تسقط الدولة تلقائيّاً!
والخطيئة التي يرتكبها قبلان والفريق السياسي والعسكري الذي يؤمن بطروحه، هي الإنكار أو عدم الاعتراف بوجود رأي آخر في البلد أو التعامل معه بخفة وتجاهل، وهذا التجاهل يؤدي إلى تسويات ظرفيّة وسطحيّة تبقي الخلاف على حاله، فيعود الوضع لينفجر عند أول مفترق واستحقاق.
ولا يكتفي المفتي قبلان بأنه لا يقرّ بوجود وجهة نظر أخرى، بل يعتبر هذه الوجهة خيانة وعمالة، ويريد أن يحسم ضدّها بالقوة، حتى يكاد يعتبر الآخر المختلف معه اسرائيلياً صهيونياً. والنقاش مع قبلان لم يعد مجدياً لأنه يعتبر وجهة نظره، وفق أدبيات النظام الايراني، إلهية وهو على حق طبعاً، ويخوِّن كل مَن لا يتبنى سرديته، ويمنع قيام دولة فعلية، وتُبقي لبنان ساحة للمشروع الإيراني، من خلال “المقاومة”.
لبنان الذي يريده المفتي أحمد قبلان لا يتضمن دولة ودستوراً وقانوناً ومؤسسات وجيشاً وسيادة، ويريد من الجميع التسليم بمقاومة عنوانها إسلامي يتبع الولي الفقيه و”تقاوم” في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن والبوسنة والهرسك.
ينتمي قبلان إلى فئة لا تؤمن في تكوينها بمفاهيم الدول والاستقرار والازدهار والدساتير، وتعيش على الفوضى، ومتنفَّسها الوحيد، أي أوكسجينها، هو: ثلاثيّة الحروب والموت والدمار.
أكثرية الشعب اللبناني لا تريد مشروع الممانعة الذي يبشّر به الشيخ قبلان، لأنه لم يجلب له سوى الذلّ، فالكرامة تبدأ من تأمين مستلزمات الحياة الكريمة والبديهية لأي مواطن من قبيل الاستشفاء والتعليم والمسكن والعمل ورفاهية الحياة، ولا تنتهي بالدفاع عن حريته، ولكن المواطن العاجز عن الدخول إلى المستشفى وغير القادر على دفع إيجار منزله وتعليم أولاده، وهو يعيش في حالة فقر ما بعدها فقر، إنّه يعيش الذلّ لا الكرامة، والسبب هو سياسة المفتي قبلان الممانعة التي لا تقيم لا وزناً ولا اعتباراً للإنسان ومصلحته، إنّما تتعامل معه كأداة في خدمة استراتيجيتها.
لم تجلب الممانعة لشعوب المنطقة سوى الذل والعتمة والفقر والموت والعذاب، وما زال المفتي قبلان يعتقد أنّه قادر على تضليل فئة من الناس بخطابات أيديولوجيّة خشبيّة تُنسيها واقعها المزري بالكلام عن العنفوان، ولكن عن أي عنفوان تتحدّث الممانعة في ظلّ الموت والفقر والتهجير والدمار والخراب؟
يستطيع قبلان أن يبيع بعض الناس الأوهام لبعض الوقت، ولكن لا يستطيع أن يواصل بيع الناس كلّهم الأوهام في الأوقات كلّها، وقد انكشفت الممانعة على حقيقتها أمام الأكثرية الساحقة من الناس التي باتت تدرك أنّها عنوان للذلّ لا الكرامة، والدليل أنّ مَن أعلن الحرب لم يسأل عن ناسه ومصيرهم، وهمّه كلّه تنفيذ سياسة ولي أمره.
جورج حايم- لبنان الكبير