معراب كانت بالأمس الحدث: جعجع رسم خطوط تماس مع “الحزب” وفتح معبراً واحداً!
“لا يعتقدن أحد أنه حُكِمَ علينا العيش في جهنّم إلى الأبد”
كان الحدث أمس في معراب: الحضور السياسي الكبير للمعارضة، عرض كشفي تكريمي لشهداء المقاومة اللبنانية، قداس مهيب، أناشيد حماسية قديمة وجديدة… أما محور الحدث فكانت كلمة رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع التي يعدّها بنفسه وبعناية فائقة حتى أنه لا يسمح لأحد بأن يطلّع عليها، وتضمّنت رسائل سياسية لا بد من التوقّف عندها نظراً إلى أهميتها.
الرسالة الأولى الأساسية كانت لـ”حزب الله” الذي يهيمن على قرار السلم والحرب، ضارباً عرض الحائط بمبدأ الشراكة الوطنية، وبدا واضحاً أن جعجع أراد ترسيم الحدود معه، بحيث رفض مبدأ الاستئثار بالقرار السياسي والاستمرار في النهج نفسه، غامزاً من قناة غياب الدولة والحكومة واستسلامها له. وبالتالي رفض هذا الواقع مع تصميم المعارضة عموماً و”القوات” خصوصاً على مواجهة هذا الواقع.
الرسالة الثانية كانت للثنائي الشيعي وتحديداً الرئيس نبيه بري، بأن المعارضة موحّدة في رفض “خزعبلات” الحوار الانقلابي الذي يطرحه، فاتحاً له معبراً واحداً هو انتخاب رئيس في المجلس النيابي وفق الدستور والآليات الديموقراطية، وبذلك أعاد جعجع الاعتبار إلى موازين القوى بين فريقي المعارضة والممانعة، رداً على كلمة الرئيس بري في ذكرى غياب الإمام موسى الصدر.
الرسالة الثالثة شدّد فيها على أن حضور المسيحيين لا يُقاس بالعدد، وهذا الكلام يأتي على خلفيّة طرح بعض المسؤولين السياسيين وخصوصاً المنتمون إلى الثنائي الشيعي أن المسيحيين فقدوا تأثيرهم بسبب تراجع عددهم، إلا أن الحقيقة المكرّسة في الدستور لا توزّع الحقوق والمواقع والصلاحيات وفق العدد، والجديد في كلام جعجع وربما سيلقى نقاشاً مستقبلياً، أنه أبدى انفتاحه على تعديل الدستور، لكن بعد انتخاب رئيس للجمهورية ينظّم طاولة حوار “جديّة” في قصر بعبدا، لذلك مسألة تعديل الدستور مشروطة وليست هديّة مجانية، بل تعتبر عرضاً مغرياً للثنائي الشيعي إلا إذا فهمه “فخاً” من جعجع لينزل الثنائي عن الشجرة.
الرسالة الرابعة أيضاً لـ”حزب الله” وتتعلّق باليوم التالي للحرب، بحيث شحن جزءاً كبيراً من الشعب اللبناني اليائس من أداء “الحزب” بالمعنويات والقدرة على الصمود، عندما أكّد أن المجموعة الدولية لن تفاوض “الحزب” وتسلّمه إدارة لبنان، لأن التجربة أثبتت أن مشاريعه تتعلّق بالموت والفقر والبؤس والحروب المستمرة ولا يصلح لبناء دولة واقتصاد وازدهار. في المقابل، طرح جعجع نفسه وفريق المعارضة كبديل اصلاحيّ نشيط وناشط يحترم الدستور والقرارات الدولية، لذا سيكون المفاوض في خطة نهوض لبنان من كبوته التي طالت. مع ذلك، ترك جعجع الباب مفتوحاً أمام “الحزب” للإنضمام إلى مشروع الدولة الفعلية إذا كان قادراً على ترك سلاحه، محذراً من توجيه هذا السلاح إلى صدور اللبنانيين بعد الحرب التي يبدو أنه خسرها، وفق جعجع، ولا يُمكن أن يكون منتصراً، والوقائع عديدة ولا لبس فيها.
قد يستخف البعض بكلام جعجع، ويعتبره مجرد كلام فاقد التأثير، إلا أن رئيس “القوات” أجاب بنفسه عن هذه النقطة، مؤكداً أنهم عاجزون عن انتخاب مرشّحهم أي سليمان فرنجية رئيساً وفق القواعد الدستورية وآلياتها. وهنا تكمن قوة جعجع وفريق المعارضة اللذين يتسلّحان بالدستور وتمكّنا حتى الآن من إفشال انقلاب الثنائي الشيعي.
في المحصّلة، اعتبر جعجع أن المستقبل في لبنان لن يكون لفريق الممانعة، داعياً الشعب اللبناني إلى الصمود لأن الانتصار سيكون لصاحب الحق ومشروع الحياة والسلام لا العنف، وهذا ما يُثبته التاريخ ويشكّل نواة الفكر السياسي لـ”القوات اللبنانية”.
قد يقفز “حزب الله” فوق كلمة جعجع، ويُكمل ما بدأه، إلا أن ما استشرفه عن مصير “الحزب” سيتحقّق، ولو طال الزمن، فهو يستفيد الآن من حالة الفوضى الاقليمية، لكن هذا المشروع الممانع لا يُمكن أن يتعايش مع التركيبة التعددية للبنان، ولو كانت القوى السياسية التي سمّاها جعجع “مبشّطة” تمتلك في مناسبات عديدة الإرادة القوية وحسّ المبادرة، لكانت وضعية “الحزب” أضعف اليوم، ولما كان لبنان يعيش البؤس والانتظار المُتعب حتى تنتهي الحرب الدائرة بعدما ربط “حزب الله” مصيره بها، لكن انسجاماً مع شعار “الغد لنا”، نختم بعبارة لجعجع في معراب أمس: “لا يعتقدن أحد أنه حُكِمَ علينا العيش في جهنّم إلى الأبد”.
جورج حايك- لبنان الكبير