بعد الفندق “الماروني” والخندق “السني”… هل دخل لبنان النفق “الشيعي”؟
منذ العام 1956 عام حرب السويس وما تلاها من “ثورة” في لبنان عام 1958، إنقسم اللبنانيون – في أول تحدٍ للميثاق الوطني وصيغة 43 – ما بين معسكرين، معسكر يمثله غلاة “المارونية السياسية” أراد للبنان أن يكون فندقاً فحسب يتولى إدارته وحده من دون مشاركة حقيقية لبقية “المساهمين”، وآخر تمثله القوى العروبية والناصرية – الاسلامية عموماً – واليسارية الجديدة، التي ظهرت في أعقاب حرب السويس وظهور الناصرية كرؤية سياسية تتبنى القومية العربية عقيدة والاشتراكية سبيلاً، والتي أرادته أن يتحول إلى خندق يذود عن حياض العروبة والأممية من دون أي إعتبار لرأي الطرف الآخر في البلد.
مع إنتهاء حرب 1958 بتوافق أميركي – مصري وإنتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، خبا هذا الصراع بسبب مقتضيات المرحلة التي إمتدت حتى العام 1967، وهو عام “النكسة” التي حلت بالعرب كأمة والناصرية كرؤية وعقيدة سياسية، والتي كانت في الحقيقة بداية النهاية لهذا المشروع السياسي والقومي، بعدها دخل العامل الفلسطيني إلى الساحة اللبنانية بما كان يمثله من رمز للمقاومة والتحدي، والذي أدخل معه كل التجاذبات والتناقضات العربية والاقليمية وحتى الدولية لما يمثله من عامل جذب كونه أُس الصراع في المنطقة.
عاد الصراع ليحتدم ويتظهر أكثر وضوحاً وشراسة ما بين لبنان الفندق الذي تمثله “المارونية السياسية” التي تكتلت ضمن “التحالف الثلاثي” والتي وجدت في “النكسة” فرصتها لمحاولة فرض رؤيتها من دون الأخذ في الاعتبار التحولات السياسية والاجتماعية وحتى الطائفية في البلد، وبين لبنان الخندق الذي باتت تمثله يومها “السنية – العروبية السياسية” – إذا صح التعبير – على إعتبار أن البعض رأى في الفلسطينيين جيش المسلمين السُنة في لبنان، إضافة إلى الأحزاب اليسارية الشيوعية تحديداً، وأن الوقت حان بوجود هذا “الجيش” للثأر من النظام “الطائفي” من جهة و”الرأسمالي” من جهة أخرى، من دون أي تفكير أو تبصر بنتائج هذا الخيار وتأثيره على وضع لبنان الوطن. فكان أن تفجر البلد وتشظى بداية من العام 1975، فلم يعد فندقاً يُسكن فيه ولا خندقاً يُركن إليه، بل تحول إلى مجموعة خنادق متقابلة وساحة مستباحة لتصفية الحسابات الاقليمية والدولية، ومختبراً للإيديولوجيات السياسية والدينية المتطرفة من يسار ويمين، ومسيحي وإسلامي تغذيه ممارسات صهيونية متطرفة، باتت تمثِّل ذريعة ل “تفقيس” الحركات السياسية المتطرفة ومدعومة من محور عالمي جعل منها رأس حربة في حربه الباردة ضد التغلغل السوفياتي في المنطقة، يقابلها تخبط عربي وعدم وضوح رؤية خاصة بعد تعدد القيادات العربية عقب غياب جمال عبد الناصر بما كان يمثله من شخصية قيادية كاريزماتية على الساحة العربية.
كان العام 1982 بالنسبة الى “المرحلة الفلسطينية” في لبنان كما العام 1967 بالنسبة الى المرحلة الناصرية، وكما تعاملت “المارونية السياسية” مع هزيمة 67 كفرصة، كذلك تعاملت “المارونية السياسية – العسكرية” – خصوصاً بعد تغييب بشير الجميل بالإغتيال – مع إجتياح 82 كفرصة أيضاً، وهو ما تُرجم بإقتحام بيروت والضاحية الجنوبية أيام أمين الجميل بإسم بسط سلطة الدولة وما تخللها من خطف للكثير من المواطنين لم يعثر لهم على أثر حتى اليوم، ما أعاد التاريخ نفسه وأعطى الفرصة لكل من سوريا وإيران – التي بدأت بالتغلغل في لبنان بإسم مقاومة الإحتلال – لدعم بقايا الميليشيات التي ما لبثت أن إستعادت سيطرتها على بيروت الغربية والضاحية في إنتفاضة 6 شباط 1984.
هكذا كانت بداية البداية لما وصلنا إليه اليوم بعد فترة من الاستقرار فرضتها الظروف الدولية – كما في ستينيات القرن الماضي – وإستمرت من العام 1992 وحتى العام 2005، تخللها مشروع “السنية – الوطنية السياسية” عبر نجاح الشهيد رفيق الحريري في إستعادة سُنة لبنان إلى حضن الوطن – الأم، بحيث باتت الوطنية اللبنانية المرتكزة على إتفاق الطائف هي الأولى من دون التخلي عن الالتزام بالقضايا العربية من دون إفراط ولا تفريط، مقابل “شيعية سياسية” كانت قد بدأت بالتكون ربطاً بالنفوذ الايراني التوسعي في المنطقة، حتى كان اليوم المشؤوم 14 شباط 2005 وتداعياته التي كانت ذروتها المرَّة في 7 أيار 2008، ليدخل لبنان “النفق” ولما يخرج منه بعد، ولم تكن صورة النفق التي شهدناها مؤخراً إلا خير تعبير عما يعيشه لبنان في الواقع. ليبقى السؤال الذي يبدو – حتى الآن على الأقل – أن لا جواب عنه وهو متى يعود لبنان بلداً “طبيعياً” كغيره من بلدان العالم، فيه الفندق للسياحة والإستجمام، والخندق للدفاع عن السيادة، والأنفاق لتخفيف حدة الازدحام المروري، بدل هذا الهراء والبلاء الذي نعيشه ونسميه تارة سويسرا الشرق وتارة أخرى سايغون، فهل نصحو قبل أن نراه “غزة” جديدة.. للأسف؟
ياسين شبلي- لبنان الكبير