هجوم كورسك: كييف تلعب أوراقها الأخيرة: ما تأثير حرب غزّة على جبهة أوكرانيا؟
خدش الشّعور الوطنيّ الرّوسيّ
تمكّن الجيش الأوكراني خلال 7 أيام من هجومه المفاجئ في مقاطعة كورسك الروسية، من احتلال 3 أضعاف ما احتلّه الجيش الروسي في جبهات القتال في أوكرانيا، لا سيما في الدونباس خلال 7 أشهر من القتال الدموي منذ بداية هذا العام (أكثر من ألف كلم مربّع بمقابل 360 كلم مربّعاً تقريباً). لكنّ الحقيقة لا تنبثق من الأرقام المجرّدة وحسب، عدد القتلى والجرحى من الجانبين، عدد الأسرى، عدد الدبّابات والطائرات المدمّرة، عدد الكيلومترات المربّعة التي حازها كلّ طرف، بل العبرة في المنظور الاستراتيجي. لذلك أُصيب الخبراء الغربيون بالصدمة عندما سمعوا بالهجوم الأوكراني على روسيا نفسها، والزجّ بقوات الاحتياط الاستراتيجي، الأكثر خبرة وتدرّباً، والمجهّزة بالأسلحة الأميركية والأوروبية. قد يكون هدف كييف إجبار موسكو على سحب جزء معتبر من قوّاتها المنخرطة في الهجوم داخل أوكرانيا، ووقف هجومها هناك، أو في الأقلّ، تخفيف زخمه. إلا أنّ الهجوم غير المتناظر في غير الجبهة الرئيسية للقتال، وهو ما تفعله عادة القوى الأقلّ والأضعف، قد ينقلب إلى كارثة عسكرية. هذا إن تمكّن الجيش الروسي من احتواء الهجوم، وتدمير القوات الأوكرانية، أو حتى إن اكتفى باستدراج القوات الأوكرانية إلى الداخل كما فعل الروس سابقاً مع نابليون (عام 1812) وهتلر (عام 1941). هي عملية في منتهى الجرأة والبراعة، وقد تصبح عملية انتحارية بكلّ معنى الكلمة. لكنّ الحاصل في كلّ الأحوال وضع نهاية قريبة لهذه الحرب.
خرجت كييف بفكرة من خارج الصندوق لكسر الجمود الميداني في الحرب المستمرّة منذ عامين ونصف عام. تقضي هذه الفكرة بشنّ هجوم مباغت على المناطق الروسيّة المحاذية لأوكرانيا غير المحصّنة، والمتروكة لحرس الحدود ووحدات قليلة من القوات الخاصة الروسية والشيشانية.
الداعي إلى ذلك أسباب كثيرة. فلم يتمكّن الروس من حسم المعركة مبكراً، ولا إجبار الأوكرانيين على الاستسلام لمطالبهم، ومن أبرزها اقتطاع ما يقرب من خُمس مساحة أوكرانيا، وضمّها إلى اتحاد روسيا.
بالمقابل، وعلى الرغم من الصمود الأوكراني الأسطوري في بداية الحرب، الذي ترافق مع دعم كبير من الولايات المتحدة وبقيّة دول الناتو، تدريباً وتسليحاً وتمويلاً، إلا أنّ الاستنزاف البشري والمادّي بلغ مبلغه مع مرور السنوات. فأوكرانيا تعاني من التراجع الديمغرافي مثل جارتها الكبرى روسيا بفارق أنّها أقلّ بأربعة أضعاف تقريباً (36 مليوناً مقابل 143 مليون نسمة)، وأنّ روسيا تسعى إلى اجتذاب مسلمي آسيا الوسطى الذين كانوا جزءاً من الاتحاد السوفيتي السابق، مقابل الحصول على الجنسية الروسيّة، وتعتمد عسكرياً على مسلمي الاتحاد الروسي نفسه، لا سيما القوات الشيشانية بقيادة رمضان قديروف التي تُعرف بـ”قوات أحمد” نسبة إلى والد رمضان الذي اغتاله الشيشانيون المعارضون لموسكو عام 2004.
تأثير حرب غزّة على جبهة أوكرانيا
في المقابل، ومع أنّ أوكرانيا سارعت إلى فتح باب التطوّع أمام المقاتلين الأجانب لسدّ الثغرة في الموارد البشرية قدر الإمكان، إلا أنّ الاعتماد الأساسي كان على القوات الشيشانية المعارضة لموسكو، وعلى تتار القرم الموالين لكييف. فيما كانت حرب غزة الطويلة مصدر استنزاف للمتطوّعين الذين غادر قسم منهم أوكرانيا للّحاق بالجيش الإسرائيلي، إمّا طمعاً بالمال، أو التزاماً بالدفاع عن إسرائيل. وقسم آخر فَقَد الرغبة بالقتال إلى جانب أوكرانيا المؤيّدة للعدوان على غزة.
يُضاف إلى ذلك فشل الهجوم الأوكراني المضادّ عام 2023 في توجيه ضربة استراتيجية للقوات الروسية، وتعثّر سيل الإمدادات الأميركية في خريف العام نفسه. ثمّ تفاقمت المخاوف من فوز دونالد ترامب بالرئاسة في تشرين الثاني المقبل. وهو ما يحرم كييف من آخر أمل لها بتغيير الواقع الميداني، فضلاً عن التقديرات المتشائمة التي استشرفها تقرير “معهد دراسة الحرب War Study Institute”، قبل هجوم كورسك، ونشرها المعهد بعده بأيام. وهي تفيد بأنّ أوكرانيا غير قادرة على تنظيم هجوم مضادّ جديد في العام الحالي ولا في العام المقبل.
لماذا فشل الهجوم الأوكرانيّ عام 2023؟
بحسب التقرير نفسه، كان الهجوم المضادّ الأوكراني عام 2023 يهدف إلى الوصول إلى مدينة ميليتوبول، وقطع طرق الإمدادات الروسية البرّية على طول ساحل بحر آزوف الشمالي، إلى مواقع الجيش الروسي في مقاطعة خيرسون وشبه جزيرة القرم. ولو نجح الأوكرانيون في هجومهم هذا، لانهارت القوات الروسية الباقية غرب محور الاختراق.
لكنّ المشكلة كما يقول التقرير تكمن في أمرين:
أوّلاً: الاعتقاد المُغرق في التفاؤل بأنّ ضربة ساحقة واحدة يمكن أن تكون حاسمة أو كاسرة لإرادة القتال عند الروس. وهذه قراءة خاطئة للحروب السابقة. فالدول الصناعية الحديثة لا يمكن هزيمتها بشكل حاسم في معركة واحدة. فيما الجيشان الروسي والأوكراني اللذان يتقاتلان داخل أوكرانيا متعادلان في الحجم والقدرة تقريباً ما دام تدفّق المساعدات الغربية مستمرّاً. ويبلغ طول خطّ المواجهة النشط ما يقرب من ألف كيلومتر (خطّ الجبهة الإجمالي هو أكثر من ثلاثة أضعاف ذلك الطول). وأيّ عملية ناجحة في قطاع واحد تترك عدداً كبيراً من القوّة القتالية للعدوّ في قطاعات أخرى. وكلا الجانبين لديه القدرة على تعبئة مقاتلين إضافيين وتسخير موارد كافية، على الرغم من أنّ أوكرانيا تكافح من أجل تحصيل موارد كافية بشرية ومادّية.
ثانياً، إنّ الهجوم الأوكراني المضادّ صُمّم وفق معايير حلف الناتو، وهي غير متوافرة أصلاً لدى الجيش الأوكراني. بعبارة أخرى، افترضت الخطّة أنّ القوات الأوكرانية المقاتلة ستحصل على مجموعة كاملة من قدرات الناتو بما في ذلك الضربات الجوّية والصاروخية الشاملة والدقيقة البعيدة المدى، في العمق الروسي، والمراقبة الشاملة عبر الأقمار الصناعية وغيرها، والقدرة على التسلّل والتقدّم من دون اكتشاف القوات المهاجمة، وتوافر اتّصالات آمنة مستندة إلى الأقمار الصناعية، واستعمال أنظمة الحرب الإلكترونية المتقدّمة، وهكذا.
أمّا الواقع فهو أنّ أوكرانيا محظور عليها توجيه ضربات طويلة المدى في العمق الروسي، وتفتقر إلى الهيمنة الجوّية، وإلى التفوّق في الكمّية المتاحة من القذائف المدفعية، وكذلك القوّة الصاروخية. إلى ذلك، كان أمام الروس وقت كافٍ لنصب خطوط دفاعية متتالية ومتشابكة، وحقول ألغام على طول الجبهة. وكانت الخطّة الأوكرانية مكشوفة تقريباً، فلا مباغتة ولا مفاجآت.
فشل الرّدّ الرّوسيّ مطلع 2024
المفاجأة الأكبر من فشل الهجوم الأوكراني المضادّ هو فشل الجيش الروسي في استغلال تعثّر المدد الأميركي لأوكرانيا في الكونغرس مع عرقلة الجمهوريين صدور القوانين اللازمة خريف العام الماضي. قام الروس بمهاجمة الوحدات الأوكرانية المنهكة، التي تفتقر إلى المدد البشريّ والذخيرة الكافية على طول الجبهات، ولم يكن بمقدورها سوى الدفاع عن مواقعها.
لقد مهّد الروس لهجومهم الواسع بهجمات الصواريخ والمسيّرات على البنية التحتية الأوكرانية ابتداء من كانون الأوّل 2023، وذلك بهدف سحب الأوكرانيين لوسائل الدفاع الجوّي المحدودة من جبهات القتال لحماية البنية التحتية. وعندما تحقّق ذلك، بدأ الهجوم الجوّي الروسي على المواقع الأوكرانية نفسها معطوفاً على إلقاء القنابل الثقيلة التي تدمّر التحصينات وتفتح الطريق أمام الدبّابات، مع سيل لا ينقطع من القذائف المدفعية بمعدّل 10 قذائف روسية مقابل كلّ قذيفة أوكرانية. عند ذلك، تركّز المجهود الأوكراني على تثبيت الجيش الروسي قدر الإمكان، واستنزافه بالمسيّرات، ومنعه من امتلاك زمام المناورة العمليّاتية استناداً إلى الاختراقات المحدودة في الجبهة. وحين تجدّد الدعم الأميركي في نيسان الماضي، تمكّن الأوكرانيون من تثبيت خطوط دفاعهم. استأنف الروس هجومهم في إقليم الدونباس في تموز الماضي، لكنّهم باتوا أعجز من الإمساك بزمام المبادرة.
التّاريخ… وخدش الشّعور الوطنيّ الرّوسيّ
المفارقة في التقرير المذكور أنّه استعمل معركة كورسك بين الروس والألمان عام 1943 إبّان الحرب العالمية الثانية نموذجاً. ففي هذه المعركة الحاسمة التي رسمت النهاية لألمانيا الهتلريّة في السنتين اللاحقتين، لجأ الروس إلى أسلوب الدفاع الناجح لاستنزاف الألمان، قبل شنّ الهجوم الروسي الكاسح، الذي وقعت فيه أضخم معركة دبّابات في التاريخ. وأضاف التقرير أنّ أوكرانيا غير قادرة على استثمار دفاعها الناجح بشنّ هجوم مضادّ بقيّة العام الحالي أو في العام المقبل، لافتقارها إلى الموارد اللازمة لحشد قوات كافية، وأنّ على أوكرانيا إكمال بناء قدرتها الهجومية عام 2025، والإفادة من الوقفات الروسيّة العمليّاتية لاختبار نقاط الضعف، وتوجيه ضربات مضادّة متتالية، إلى أن يتحقّق المطلوب.
ما حدث في الذكرى الـ81 لمعركة كورسك الحاسمة، وفي الشهر نفسه التي خيضت فيه تلك الحرب الحاسمة، وكان الأوكرانيون آنذاك جزءاً أساسياً من الجيش السوفيتي، أنّ القيادة الأوكرانية قرّرت اختصار الطريق بهجوم على كورسك، في 6 آب الجاري لتحقيق أهداف سياسية تفاوضية يمكن أن تختصر الحرب. فاختراق روسيا نفسها في ذكرى معركة كورسك المجيدة، يخدش الشعور الوطني الروسي بنوع من الإذلال، لا بهدف إلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا، بل لإذلال بوتين نفسه أمام مواطنيه الفخورين به زعيماً يُعيد أمجاد روسيا.
أمّا عسكريّاً فيمكن لبوتين التعامل مع الحدث بعقل بارد، واستغلال الاختراق الأوكراني ليكون ميدان استنزاف لقوات النخبة الأوكرانية، وحرمان القوات الأوكرانية المدافعة في الشرق من المدد اللازم.
هي حرب أعصاب بالدرجة الأولى ومعركة موارد وإمدادات.
هشام عليوان- اساس