أكثر من 40 ألف شهيد فلسطين و”الزعيم” في الأنفاق: الخفايا المحظورة عن السّنوار الأسطورة!
اثنان لا يمكنهما العيشُ بلا أسطورة: حاكمٌ مستبدّ. ومحكومٌ مأزوم
اثنان لا يمكنهما العيشُ بلا أسطورة: حاكمٌ مستبدّ. ومحكومٌ مأزوم.
الأوّل يحتاج إلى الأسطورة ضرورةً لتغطية استبداده. الثاني يحتاج إليها ضرورةً أكبر لتبريرٍ ذاتي وتسويغٍ نفسيّ لعجزه وانسحاقه وبؤسه.
خصوم يحيى السنوار يتّهمونه بأنّه نموذج لتلك الضرورة في اختراع الأسطورة.
بينما حقيقته بحسب زعمهم أنّه رجل سلطة لا غير. مشى على دروبها بـ”دالين” اثنتين: “دال” دمٍ للوصول، و”دال” الدين لتحليل الوصول بالدم.
عبد الفتّاح دولة أسيرٌ فلسطيني عاش مع السنوار سبع سنوات في زنازين “العزل الجماعي في معتقلَي السبع وهداريم”. روى الكثير عن سنوات الظلم تلك، وعن بطولاتها ومآسيها ووجوهها وأسمائها، وخصوصاً عن “السنوار كما عرفته”، كما عنْوَن مطوّلته عن زعيم “حماس” الجديد التي نشرت في العام 2021 على موقع مركز الانطلاقة للدراسات.
يبدأ قراءته لشخصية السنوار وانطلاقته من معطىً أساسيّ: “الإخوان المسلمون بنوا عقيدتهم الأمنيّة في مواجهة النظام المصري على وجه التحديد. حيث منشأ ومعقل المؤسّس حسن البنّا. وبالتالي فإنّ عقيدة أمن “الإخوان” توجّهت نحو الداخل الإسلامي الذي كان “كافراً”وفق نهج “الإخوان”. ولم يكن ضدّ عدوّ خارجي. وإن كان هذا العدوّ هو المستعمر الصهيوني”، ليستنتج دولة أنّه في “ذات الإطار وذات المدرسة الأمنيّة كوَّن السنوار عقيدته، فأسّس سنة 1985 الجهاز الأمنيّ لجماعة “الإخوان المسلمين” في قطاع غزة وقد حمل اسم”مجد”. وذلك قبل تأسيس “حماس” نفسها.
بعد سنتين ولدت “حماس”. فنقل السنوار عمله الأمنيّ إليها عبر تأسيسه تنظيم “المجاهدون الفلسطينيون”، كأوّل جهاز أمنيّ للحركة الإسلامية الجديدة.
في الحالتين كانت مهمّة السنوار ووظيفته الأساسية ملاحقة ما يُسمّى “عملاء الداخل”. وبالتالي كان هدفه الأوحد تصفية فلسطينيين متّهمين بخيانة أو تكفير أو صهينة أو أيّ تهمة تُجيز شرعاً تصفيتهم”.
يروي دولة تفاصيل مذهلة عن ملاحقته حتى للفلسطينيين المعتقلين. وكيف كان يُصدر تعليماته للأسرى من “حماس”، للتحقيق داخل المعتقلات الإسرائيلية، مع معتقلين فلسطينيين آخرين يعيشون معهم مآسي الاعتقال نفسه، بتهم “التعامل” مع العدوّ.
لكنّ الصادم في رواية المعتقل دولة تأكيده أنّ غرض السنوار من تلك الممارسات لم يكن مكافحة “العمالة”، بل قمع معارضيه تحديداً. وهو ما يروي أنّ السنوار كشفه شخصياً حين “قدّم نصيحة لأحد قادة تنظيمات الحركة الأسيرة بأن يفتح ملفّات عمالة لمن يشكّلون حالة قلق أو نقد له في سبيل ردعهم وإخضاعهم”!
في تلك الفترة، بدأ عمل “كتائب القسّام” خارج المعتقلات. فصار لها وهجٌ وأبطالٌ وقادة. ولم يكن السنوار الأسير معنيّاً بذلك كلّه، بل بعيد عنه كلّياً، فتراجع دوره حتى تمّ أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من قبل “القسام” سنة 2006. إذ صودف أنّ شقيق السنوار كان أحد المفاوضين الحمساويين على صفقة التبادل. فطلب من الإسرائيليين تكليف شقيقه المعتقل، يحيى، مهمّة تنسيق الصفقة من داخل المعتقلات، فاستعاد الرجل دوره، واستثمره بشكل مطلق.
المفاوض داخل المعتقل
تولّى يحيى السنوار من داخل معتقله التفاوض مع نظيره الإسرائيلي، رجل المخابرات الصهيوني عوفر ديكل. فصار الاثنان يجتمعان ويتحادثان حتى وُضعت سيارة من الجيش الإسرائيلي في تصرّف السنوار المعتقل لينتقل بها تحت حراسة إسرائيلية مشدّدة، ويزور المعتقلات الأخرى ويلتقي المعتقلين الفلسطينيين الآخرين بحجّة العمل على إنجاز صفقة التبادل.
يروي خصوم السنوار مطوّلات حول كيفية استغلاله لتلك المهمّة لترسيخ سلطته وتكريس سطوته حتى إنّه كان يضغط على رفاقه المعتقلين الفلسطينيين بطلبه منهم الخضوع له وإلّا شطبَ أسماءهم من لوائح التبادل.
هنا يكتب المعتقل السابق عبد الفتاح دولة تفاصيل مثيرة عن ضغط السنوار مثلاً “لأقدم أسير في السجون كريم يونس”، وانتهى بقول يونس للسنوار: “إنْ كانت حرّيتي ستأتيني هكذا، فلا أريدها منك”.
تدليلاً على الوضع الخاصّ الذي اكتسبه السنوار في تلك الفترة، يقول معارضوه إنّه ذات يوم أصيب بعارض صحّي في معتقله. لم يلبث أن تبيّن أنّه نتيجة ورم حميد في الرأس. فسارعت سلطات المعتقل لنقله إلى مستشفى صهيونيّ خاصّ، وبواسطة مروحية متخصّصة، وأجريت له عملية جراحية عاد بعدها ليتعافى ويكمل مهامّه. وفي رواية أخرى لزميل السنوار في السجن أنّ إسرائيل حرصت على ضمان استمرار عملية إطلاق الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط علم 2021 بعدما كان أسيراً لدى حماس لسنوات.
بهذه الخلفيّة يقرأ خصوم السنوار “معارضته لوثيقة الوفاق الوطني (أو وثيقة الأسرى) التي وقّعها عن الهيئة القيادية العليا لحركة “حماس” في السجون، الشيخ عبد الخالق النتشة” سنة 2006. ولم يتردّد السنوار يومها بتهديد هؤلاء بأنّه “سيجعلهم يندمون”. ثمّ إجهاضه مبادرة الأمين العامّ للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الأسير أحمد سعدات سنة 2011.
الدّين الدّين ثمّ الأقصى
كان دوماً في صراعات تصفياته الداخلية، يلجأ إلى التبرير الديني. فيكرّر في كلّ خطبه في المعتقل وخارجه، تصنيفه لرفاقه بين الموالين له، وبين “الخونة”، وبأنّه مكلّف بحماية الأوّلين وبتصفية الأخيرين، وفق القاعدة الشرعية: “فأمّا الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
وهو الخطاب الذي أعلاه وحصر به كلّ كلامه، بعد خروجه من المعتقل. الدين الدين. ولا شيء إلا التبرير والتسويغ الديني.
حتى إنّه لمّا بدأ التنسيق مع طهران، كتب واصفاً معركته التي يخوضها كما الحسين في كربلاء!
راح يختزل خطابه التعبويّ بمسألة واحدة: المسجد الأقصى. حتى أعلن قبل عامين ونيّف: “المساس بالقدس والمسجد الأقصى يعني حرباً إقليمية دينية. وليكن الثمن ما يكون”، ذاهباً أبعد في تعبئته الدينية، مهدّداً “باستباحة آلاف الكنس والمعابد اليهودية على امتداد العالم”.
حتى جاهر، قبل ستّة أشهر من “طوفانه” الموعود، بأنّ “يوم القدس ليس مجرّد مهرجانات واحتفالات وخطب تلقى. بل بات يوم بارودٍ وأنفاقٍ وصواريخَ وجنود وكتائب وعشّاق شهادة يتبايعون على الموت”.
حمّل يهود العالم مسؤولية “هولوكوستهم” المقبل، بالقول لهم: “رسالتي ليهود العالم، أعلوا أصواتكم برفض سلوك الحكومة الصهيونية. وقاطعوها. وأجبروها على تغيير مسارها. وإلّا فأنتم أوّل من ستحترقون بنار الحرب الدينية التي يشعلونها”.
بعد أشهر جاء 7 أكتوبر. وانتهت المحصّلة مع نهاية تموز: أكثر من 40 ألف شهيد فلسطيني. بينهم أكثر من 16 ألف طفل. وأكثر من 10 آلاف امرأة.
ومثلهم على الأقلّ من المفقودين. وضعفان من الجرحى.
قتلهم نتنياهو بوحشيّته. لكنّ السنوار كان هناك. في الأنفاق التي بناها.
تماماً كما قتلت حربُ واشنطن مئات آلاف العراقيين. لكنّ صدّام كان هناك.
وقتلت حربُ فرنسا وأخواتها عشرات آلاف الليبيين. لكنّ القذّافي أيضاً كان هناك.
وقُتل مئاتُ آلاف السوريين وملايين السودانيين حتى اليوم…
فيما كان وعدُ السنوار لمساكين غزة قبل أكثر من ثلاثة أعوام، بأنّه “لن ينقضي هذا العام، إلّا وقد تحقّقت انفراجة كبيرة في الحياة الاقتصادية والإنسانية في قطاع غزة”.
قبل أن يعدهم قبل نحو عشرة أشهر بالقضاء على آخر احتلال على وجه الأرض، وبتنظيف سجون الصهاينة من المعتقلين الفلسطينيين.
على أملٍ الآن أن تنتهي الحرب بتحرير ما لم يكن محتلّاً أصلاً من غزة قبل 7 أكتوبر، وبإطلاق عدد من الأسرى، يوازي نصف الذين اعتقلهم الكيان الغاصب بعد هذا التاريخ.
هي ثوابتُ النشوة بالأسطورة عبر التاريخ.
لأنّ الحقيقة مُرّة. الأسطورة حلوة. الحقيقة مملّة. الأسطورة مثيرة. الحقيقة تجعلك تكتشف واقعك المأزوم. الأسطورة تأخذك إلى حلمك الموهوم. أصحاب الحقائق منفّرون. أصحاب الأساطير جذّابون.
معظمُ كيانات الأرض قائمة على أساطير. كلّ زعامتنا كذلك.
يكفي الأسطورة ذاك المثل الفرنسي الرائع القائل بأنّ الوعود لا تُلزمُ إلا من يصدّقها!
جان عزيز- اساس