انها معركة كرامات بين أطراف جريحة: هيبة حسن نصر الله في عقر داره… وهيبة خامنئي في عرينه!
نتنياهو يستبق الجبهات… مَن يريد القتال؟
لم تقتل اسرائيل فؤاد شكر فقط ولا اسماعيل هنية فقط، بل أصابت بهما هيبة حسن نصر الله في عقر داره، وهيبة خامنئي في عرينه، في خطوتين تحملان في الظاهر الكثير من التحدي العسكري أولاً، والكثير من الرسائل السياسية ثانياً، والكثير من التساؤلات ثالثاً.
في التحدي العسكري، بدا رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، العائد منتشياً من واشنطن، وكأنه يريد أن يجر “حزب الله” وايران معاً الى حرب مباشرة بالقوة، بعيداً من حرب المناوشات الاستنزافية، وأن يثبت للاسرائيليين أن أجهزته الاستخبارية التي سقطت في “السابع من أكتوبر” قد استعادت فاعليتها، وأن يثبت للأميركيين أن فؤاد شكر الذي يبحثون عنه منذ العام ١٩٨٣ قد أسقطه في غضون ساعات.
وفي التحدي عينه، بدا نتنياهو الذي تقصد أيضاً الاعلان عن مقتل محمد الضيف في الوقت عينه تقريباً، وكأنه يريد من خلال اغتيال اسماعيل هنية في طهران أن يثبت للمرشد الايراني، أن حلفاءه ورجاله ليسوا في أمان سواء كانوا داخل ايران أو خارجها، وأن يضع حركة “حماس” المعاندة في رفح بين خيارين: اما القاء السلاح واطلاق الرهائن، واما تصفية قادتها الواحد بعد الآخر، خصوصاً أن شروط الصفقة التي كان يسعى اليها المفاوضون الفلسطينيون تتضمن عدم التعرض لقادة الحركة السياسيين والعسكريين.
هذا في الظاهر، لكن في الساحات الخلفية أمر آخر، اذ ان قرار التخلص من هنية لم يكن قراراً محدوداً ومحصوراً في اطار الصراع بين الطرفين وحسب، بل كان ذا هدفين آخرين هما: تحذير أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني من مغبة الاستمرار في احتضان “حماس” وقادتها وتمويلهم وتعزيز عصب “الاخوان المسلمين” في غزة والمنطقة، وثانياً تحذير الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من مغبة أي محاولة للتورط في حرب غزة سواء عبر حليفه هنية ورجاله أو عبر عمل عسكري مباشر.
والواقع أن اغتيال هنية في قراءات المحللين والمراقبين ليس اغتيالاً لشخص بعينه، بل لتيار اسلامي تحتضنه الدوحة وأنقرة وتنفر منه الدول العربية والاسلامية وتعمل على تطويقه بأي ثمن.
وانطلاقاً من هذه الوقائع، يسود انطباع في تل أبيب بأن نتنياهو نجح في ارضاء الأميركيين من خلال تصفية فؤاد شكر المسؤول عن تفجير مقر “المارينز” في بيروت ومقتل ٢٤١ جندياً، وفي ارضاء التيار العربي المعتدل من خلال تصفية ركن أساسي في منظومة “الاخوان المسلمين” الذين يضربون في فلسطين والأردن ومصر والخليج بدعم مالي من قطر وعسكري من تركيا، وفي ارضاء الرأي العام الاسرائيلي الذي بدأ يتأثر سلباً بالحملة التي تخوضها المعارضة ضد أداء الحكومة المصغرة في البلاد.
وبعيداً مما يفاخر به نتنياهو لا بد من أسئلة عدة أولها، هل تلقى الرجل تواقيع الرئيس جو بايدن على ما فعله في الضاحية الجنوبية وطهران، وضمانة عسكرية مباشرة في حال تورطت اسرائيل في حرب مباشرة؟
الجواب هنا يبدو ايجابياً في وقت حرّكت الولايات المتحدة بوارجها الحربية نحو السواحل اللبنانية في تحذير مباشر لـ “حزب الله” وحلفائه مدعوماً بموقف علني داعم من وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن، وبغارة أميركية ضد موقع من مواقع “حزب الله” العراقي كان يستعد لاطلاق صواريخه في اتجاه اسرائيل فور تلقيه نبأ الغارة على الضاحية الجنوبية.
والسؤال الثاني، هل تجرؤ ايران على التورط في حرب شاملة تسمح لكل من اسرائيل والولايات المتحدة بضرب منشآتها النووية وهي على بعد أسابيع من انتاج أول قنبلة غير تقليدية، وهل يجرؤ حسن نصر الله على تفجير الجبهة الجنوبية والدخول في حرب تدميرية تقضي على ما تبقى من مقومات لبنان، أو تنتهي الى اجتياح قد يكلف اسرائيل الكثير من الخسائر لكنه قد يكلف “حزب الله” وجوده العسكري في الجنوب وسطوته السياسية في بيروت؟
الواقع أن نتنياهو لم يترك لايران و”حزب الله” ما يسمح برد شكلي أو برد مقبول يمكن أن يحفظ ماء الوجه، بل وضعهما أمام ثلاثة خيارات هي أولاً: اختيار رد عنيف يجبر تل أبيب اما على ابتلاعه واما على الدخول في حرب شاملة تنتهي الى غالب ومغلوب أو الى قتيل وجريح بحال الخطر، وثانياً: الدخول في مفاوضات وفق شروط اسرائيل، أي الانسحاب الى شمال الليطاني والغاء المشروع النووي الايراني، والثالث: استيعاب ما جرى تماماً كما استوعبا مقتل عماد مغنية وقاسم سليماني من قبل.
وفي قراءة للخيارات الثلاثة يميل المنطق الى خيار الحرب الشاملة، ليس لأنه الأنسب بل لأنه الوحيد المطلوب لسببين: الأول احتواء حال الصدمة في بيئة الممانعة الممتدة من بيروت الى طهران بعد سلسلة من الضربات التي عبرت من دون رد مماثل، والثاني أن عدم الرد بقوةٍ قادرة على استعادة توازن الرعب، يعني القضاء على منطق المقاومة المسلحة وتبريرات الاحتفاظ بالسلاح سواء في لبنان أو العراق أو اليمن وسواها.
لكن الخطاب الذي أدلى به نصر الله تجاوز خيار الحرب الشاملة الى خيار “الحرب المفتوحة” التي لا يمكن أن تنتهي، حسب قوله، الا “بوقف العدوان الاسرائيلي على غزة”، وهو تحذير يحمل في طياته مبادرة غير مباشرة تقوم على معادلة الهدنة في غزة في مقابل الهدنة في المنطقة .
ولعل ما دفع نصر الله، الناطق عملياً باسم ايران، الى موقف ليس في حجم مع تعرض له، هو الآلة العسكرية الأميركية التي ترابط قبالة دول المحور براً وبحراً وجواً وسط أجواء تؤكد أن واشنطن لن تتخذ دور المتفرج اذا تعرضت اسرائيل لهجوم جماعي، وأن نتنياهو الذي يضرب شمالاً ويميناً من دون أي رادع ، يبحث عن “نصر” يسمح له بالقول أمام الاسرائيليين: اذا كان ديفيد بن غوريون هو من أسس الدولة العبرية فأنا من أنقذها، وأمام الأميركيين أن أي انتكاسة تتعرض لها اسرائيل ستعني انحسار النفوذ الأميركي – الغربي في الشرق الأوسط لمصلحة ايران وروسيا والصين، وأمام الدول العربية المعتدلة أن انتصار ايران و”الاخوان المسلمين” سيعني إسقاط الأنظمة الحاكمة الواحدة بعد الأخرى، وأمام الرئيس التركي اردوغان أن عصر الامبراطوية العثمانية السنية لن يعود لا عبر القوة العسكرية المباشرة ولا عبر الحركات الاسلامية الأصولية، داعياً اياه الى خوض منافساته مع الامبراطورية الفارسية الشيعية العتيدة بعيداً من الدولة اليهودية.
وليس المقصود هنا تصوير نتنياهو وكأنه حارس الكون أو “المنقذ من الضلال”، بل القول إن حجم الأخطاء والممارسات الشاذة التي ارتكبتها ايران في مكان والاسلام السياسي في مكان آخر، أفقدهما أي تفهم من الغرب الذي بدأ يميل الى اليمين المتطرف، ومن الولايات المتحدة التي بدأت تقتنع بأن اسرائيل تحولت الى حليف استراتيجي وعضوي لا يمكن الاستغناء عنه، ومن دول عربية عدة بدأت تقتنع بأمرين: الأول أن النهضة الاقتصادية والانفتاحية التي تسعى اليها وتحديداً في بيئة الخليج غير ممكنة وهي على مرمى الصواريخ الايرانية الرابضة في اليمن المجاور، وأن التطبيع أو الانفتاح على سلام مع اسرائيل يؤدي الى دولة فلسطينية مستقلة، غير ممكن في ظل هيمنة ايرانية على قرار الحرب والسلم في المنطقة.
في اختصار، يسود إجماع على أن لا أحد في المنطقة يستطيع، بعدما طُعن في صميمه، تحاشي الحرب سواء طوعاً أو قسراً، في ظل فريق يرأسه نتنياهو ويبحث عن حرب يريدها بالحاح، وفريق ترأسه ايران ويتجه الى حرب فرضت عليه بالقوة.
انها معركة كرامات بين أطراف جريحة، أكثر منها معركة ساحات ساخنة، والغلبة لن تكون الا لمن يذهب الى الحرب من دون اكتراث بأي أثمان أو تداعيات أو حسابات.
انطوني جعجع- لبنان الكبير