المشهد الحالي: خسائر استراتيجية لإسرائيل ومكاسب لإيران… و“حزبها” هو من يحاور القوى الخارجية!
إسرائيل وإيران تريدان الاستثمار في الخراب
ترغب إيران، كما ترغب إسرائيل، في حرب أوسع من المواجهات الحاصلة منذ تسعة شهور حتى الآن في جنوب لبنان. إيران تكتم هذه الرغبة وأرسلت أخيراً أكثر من إشارة الى أنها لا تريد الحرب، وإسرائيل خففت بدورها التصريحات المتوعّدة بحرب وشيكة. لم يتمكّن الطرفان من استشراف حدود معيّنة للحرب وأهدافها، فهي إذا اندلعت لن يكون واضحاً متى تنتهي ولا كيف ستُقوَّم نتيجتها ليصار الى صوغ شروط وقف اطلاق النار والترتيبات اللاحقة.
الجانب الإسرائيلي حدّد هدفاً معلناً بإبعاد الخطر عن مستوطني الشمال نحو عشرة كيلومترات في العمق اللبناني، وهو ما لم يتحقّق بـ “الحلّ الديبلوماسي”، وضمّن الخطط العسكرية لتحقيقه دخولاً برّياً مرفقاً بغارات جويّة وقصف صاروخي لإحداث دمار كبير. غير أن الرسائل التي تلقّتها اسرائيل، إما عبر الأجهزة الاستخبارية الحليفة لإسرائيل أو الفيديوات التي بثّها “حزب إيران” اللبناني، جعلتها تراجع حساباتها كي يكون لديها تقدير أكثر دقّة لـ “المفاجآت” التي تنتظر جيشها. فالدخول البرّي قد يكون متاحاً لكنه لن يكون نزهة لجنودها، أما التدمير فسيقابل بتدمير يصعب التكهن المسبق بحجمه وإسرائيل لا تستطيع تحمّل هذه المعادلة أو قبولها، لأنها تعني عدم قدرتها على فرض “الردع” الذي تهدف اليه، ناهيك عن فرض “الحلّ العسكري” المتوخّى. ثمة اختلافات كبيرة بين الحرب على غزّة وما فيها من دروس وبين ما يمكن أن يواجه الإسرائيليين في لبنان.
أما الجانب الإيراني (- اللبناني) فبدأ بـ “اسناد غزة” و”مشاغلة العدو” كهدف، وحرّك “الحرس الثوري” ما لديه من ميليشيات في العراق واليمن وسوريا (حيث ينشط “الحزب” اللبناني خصوصاً)، وظلّ ملتزماً “قواعد الاشتباك”، ثم راح يصعّد ردّاً على تكثيف إسرائيل استهدافاتها وتوسيع نطاقها. ورغم أن طهران حافظت على التفاهم الضمني مع واشنطن على استبعاد المواجهة الإقليمية، إلا أنها هددت مرتين بـ “التدخل المباشر”:
الأولى عندما تشكّل تحالف دولي بقيادة أميركية لردع الهجمات الحوثية على السفن التجارية في البحر الأحمر، محذّرة من عمليات عسكرية تضعف حليفها الحوثي أو تسعى الى تغيير موازين القوى في النزاع اليمني- اليمني. ويُستدل من النمط الذي اتخذته الغارات الجوية على مواقع الحوثيين أن الولايات المتحدة وبريطانيا التزمتا “قواعد اشتباك” لا تستفزّ إيران بل تراعي استراتيجيتها الإقليمية، ولو على حساب جيرانها العرب الحلفاء للغرب، وحتى لو كان القصد من الانضباط الأميركي عدم المزج بين النزاعات فإن طهران قرأت الاستجابة للخطّ الأحمر الذي حدّدته بأنه “اعتراف” ضمني بنفوذها ولو في منطقة ملاحة دولية.
والمرّة الثانية عندما اصطنع الإسرائيليون حالاً من حرب وشيكة الوقوع واستعدادٍ لغزو الأراضي اللبنانية، وسط تبادل محموم للتهديدات بين “حزب إيران” وقادة العدو. ردّت طهران عبر أصوات عدّة بأنها ستتدخّل، وما لبثت أن أوعزت الى بعثتها في الأمم المتحدة بإصدار بيان تحذّر فيه من تحريك “الساحات”، وكانت تلك البعثة برزت ليلة اطلاق الصواريخ والمسيّرات الإيرانية على اسرائيل (14 نيسان/ ابريل 2024) عندما أصدرت بياناً يفيد بأن الهجوم قد انتهى، ومنذئذٍ بات ثابتاً أن طهران تعتمد هذه البعثة كقناة اتصال مع واشنطن، تحديداً عندما تريد إيصال رسالة سريعة ومباشرة، وقد أرادت ببيانها في شأن لبنان استباق محادثات بين وزيري الدفاع الأميركي والإسرائيلي. لكن كل تقويم للتدخّل الإيراني يفيد بأنه لن يكون “مباشراً” بل عبر الميليشيات، وقد يكون أكثر ازعاجاً للأميركيين منه للإسرائيليين، وبالتالي قد تضطرّ الولايات المتحدة الى التدخّل، وهو ما لا تريده، ليس لأن إدارتها في موسم انتخابي يزداد صعوبة لرئيسها وحسب، بل أيضاً لأنها لا تعتزم الغرق مجدّداً في الشرق الأوسط.
خفتت طبول الحرب من دون أن تصمت. ويترجّح الوضع الآن بين احتمالين اسرائيليين سلبيين: إما أن تقبل إسرائيل باستمرار المواجهة بنمطها الحالي في انتظار وقفٍ لإطلاق النار في غزّة يُفترض أن يهدّئ جبهة الجنوب اللبناني، وأن يمهّد لـ “اتفاق حدودي” جديد. وإمّا أن تمرّر وقفاً لإطلاق النار في غزّة، مع إصرار على مواصلة عملياتها بعد انتهاء الهدنة، أي من دون إنهاء الحرب، وبالتالي فإن هذه الصيغة لن تشكّل نهاية للمواجهة في جنوب لبنان… كلا الاحتمالين يتضمّن تراجعاً استراتيجياً لا تحتمل إسرائيل التعايش معه، وبالطبع فإنه لا يريح واشنطن التي تعتبر “تفوّق إسرائيل” تفوّقاً لها أيّاً كانت الاعتبارات التي تتحكّم بخياراتها حيال إيران. وربما تتغيّر الحسابات الإسرائيلية في حال وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض.
في المقابل، من شأن إيران أن تعتبر دورها في “طوفان الأقصى” وإشعال حرب غزّة وحروب “المساندة” مجرّد خطوات متقدّمة نحو “الحرب الكبرى” التي لا تزال وأتباعها ينذرون بها. من شأنها أيضاً أن ترى في تعريض إسرائيل للخطر وهزّ مكانتها الدولية وإرباك حلفائها الغربيين ما يعزّز استراتيجيتها، إذ ان “حماية” ميليشياتها- خصوصاً في لبنان واليمن- لم تعد تتطلّب أكثر من التلويح بـ “تدخل” يبقي أراضيها بمنأى عن أي خطر، أما خسائرها البشرية بالضربات الاسرائيلية في سوريا فتعدّها “ضريبة الممانعة”، وأما اضطرارها الى سحب احدى ميليشياتها العراقية من المواجهة فهو “أضرار جانبية”.
وفقاً لهذا المشهد لا يمكن توقّع سوى أن الحرب ستبقى حالاً قائمة في غزّة لأن إسرائيل وإيران تريدان الاستثمار في الخراب، كما في لبنان لأن الإسرائيلي سيواصل السعي الى “استعادة الردع” حتى بكلفة عالية، ولأن الإيراني يريد لبنان قاعدة لنفوذه الإقليمي بدليل أن “حزبه” هو من يحاور القوى الخارجية في شأن الحرب، ثم ان زعيم هذا الحزب حسن نصر الله أكد أنه يريد ادامة هذه الحرب ولا يريد اتفاقاً حدودياً بعد وقف المواجهة الحالية، كما أنه يقبض مباشرة على مقاليد الحكم ويشترط لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، والأكيد أنه سيضاعف هذه الشروط مدفوعاً بإنجازاته في الجنوب.
عبد الوهاب بدرخان- لبنان الكبير