أين تقف الدول العربية من سباق “الذكاء الاصطناعي”؟

“المنطقة العربية قادرة على بناء النماذج الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وتطوير التكنولوجيا الخاصة بها بعيداً من سيطرة كبرى الشركات العالمية”. فأين تقف الدول العربية من سباق “الذكاء الاصطناعي”؟

قدر تقرير حديث للموقع المتخصص في الإحصاءات “ستاتيستا” نمو سوق الذكاء الاصطناعي بأكثر من 184 مليار دولار خلال عام 2024، متوقعاً وصوله إلى 826 مليار دولار عام 2030 في ظل منافسة محتدمة، وبخاصة بين أميركا والصين حول المسيطر في هذه السوق التي شهدت أخيراً طفرة واسعة في تقنياتها وتطبيقاتها.

ولم تكن الدول العربية بمنأى عن التنافس المشتعل وإن ابتعدت من موقع الصدارة، إذ التحقت دول عدة بمضمار السباق من طريق الاستثمار ووضع رؤى وسياسات وبرامج والدخول في شراكات مثمرة. وبحسب تقديرات شركة الاستشارات برايس ووترهاوس كوبرز (PWC) يتوقع أن يحقق الشرق الأوسط اثنتين في المئة من إجمال الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي خلال عام 2030، بما يعادل 320 مليار دولار.

تحديات عربية

ويتطرق الأستاذ المساعد بكلية تكنولوجيا المعلومات وعلوم الحاسب بجامعة النيل إسلام ثروت إلى تحديات المنطقة العربية، التي تكمن في تقديره بالقدرة على الصناعة في مجال الذكاء الاصطناعي قبل فرض تقييدات وتضييقات أكبر على منتجاته.

ويقول ثروت لـ”اندبندنت عربية” إن بعض الدول العربية “خصصت إدارات داخل المؤسسات الحكومية ولديها جامعات للنهوض بهذا المجال”. مشدداً على أنه “لا بديل عن التعاون عربياً لتصنيع منتجات الذكاء الاصطناعي والاستفادة من العقول الرائدة في هذا المجال”، مطالباً جامعة الدول العربية بـ”تبني فكرة إنتاج تكنولوجيا عربية معتمدة على الذكاء الاصطناعي”.

وفي رأي المتخصص في تكنولوجيا المعلومات فإن الدول المهيمنة ستلجأ إلى “حظر إنشاء معامل للذكاء الاصطناعي ومنع استخدام برامج معينة في المستقبل، مع اشتعال الصراع العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي”. مستمداً قناعاته من أن العالم في صراع حتمي و”أحد أهم وسائل القوة في الحقبة الجديدة هي تقنيات الذكاء الاصطناعي، والدول العظمى هي من ستصل وتتحكم في هذه التكنولوجيا أولاً”.

وما يقوله ثروت ليس مستبعداً حدوثه، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، فرضت إدارة بايدن سلسلة من القيود على صادرات الرقائق الأميركية إلى الصين، بسبب مخاوف من إمكانية استخدام بكين أشباه الموصلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي لتطوير قدرات عسكرية جديدة. وبعد مرور عام قامت واشنطن بتحسين هذه القيود وبخاصة على بيع رقائق الرسوميات لتطبيقات الذكاء الاصطناعي.

وبالنظر إلى حجم التنافس الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي يبقى الصراع قائماً بقوة بين الولايات المتحدة والصين. وتشير تقديرات “ستاتيستا” إلى زيادة حجم سوق الذكاء الاصطناعي بصورة ملحوظة منذ عام 2016 على خلفية المنافسة الدولية، ملقية الضوء على مساعي الحكومة الصينية لجعل البلاد رائدة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، إذ صنفت هذا القطاع كصناعة رئيسة ذات أهمية استراتيجية.

وبينما بلغ حجم سوق الذكاء الاصطناعي الصيني خلال عام 2022 أكثر من 285 مليار يوان (نحو 40 مليار دولار). يتوقع “ستاتيستا” أن ينمو حجم سوق الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة بما يتجاوز 200 مليار دولار عام 2030، بعد نمو مطرد بلغ السوق خلاله ما يقارب 90 مليار دولار عام 2023.

ووفق أستاذ الذكاء الاصطناعي بجامعة جنوب الوادي محمد زيدان الحاصل على براءتي اختراع من الولايات المتحدة في تصميم ذاكرة الوصول العشوائي (الرام) للكمبيوتر الكمي، فإنه لا شك من أهمية الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لـ”تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، ودول عربية عديدة تمتلك الإمكانات المؤهلة لإحداث طفرة في هذا المجال، لكنها تحتاج إلى الإرادة للتقدم والنمو”.

وإن كان الاهتمام بالاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي مهماً فإن “دعم المبتكرين العرب” من الأمور التي يجب وضعها في عين الاعتبار، بحسب زيدان. وتطرق إلى المعوقات التي تقف حائلاً أمام الباحثين العرب ضارباً أمثلة بالقول إن “براءة الاختراع الواحدة في أميركا تتكلف مبلغاً يراوح ما بين 10 و12 ألف دولار، إضافة إلى مصروفات المحامي المتخصص لمتابعة طلبات التقديم”.

ويشرح زيدان أن شركة “إنفيديا” التي تزيد قيمتها السوقية على 3 تريليونات دولار تحتكر تصميم الشرائح المستخدمة في الكمبيوتر الكمي، الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي وتتحكم في السوق وفقاً لرؤيتها، ويمكن إذا اهتممنا بالصناعة أن نصدر هذه التكنولوجيا إلى العالم. ونحن عربياً نمتلك كوادر قادرة على تحقيق ذلك.

وتسهم هذه الشرائح في تسهيل عملية التعلم العميق وهي تقنية تعالج البيانات بطريقة مستوحاة من الدماغ البشري لإنتاج رؤى وتنبؤات دقيقة. ويتميز الكمبيوتر الكمي بقدرات فائقة ويمكن استخدامه في فك جميع الشفرات وتنفيذ هجمات سيبرانية، مما قد يؤدي إلى سقوط العملات الرقمية، وفق زيدان. ويمكن لهذه التكنولوجيا تغيير خريطة الصناعات الوطنية، وتحقيق قفزات في المجالات التي تعتمد على السرعة وقوة المعالجة.

وتتوقع مؤسسة “آي دي سي” العالمية للأبحاث السوقية أن تصل الاستثمارات العالمية في الحوسبة الكمية إلى نحو 16.4 مليار دولار بنهاية عام 2027، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 11.5 في المئة، بما يشمل الاستثمارات من القطاعين العام والخاص، والإنفاق على البحث والتطوير من شركات التكنولوجيا.

ولا يجد الأكاديمي المصري ما يعوق الدول العربية المواكبة لهذا التطور من التحول من الاستثمار إلى تصنيع منتجات الذكاء الاصطناعي وتصديرها، إذا توحدت واستفادت من الإمكانات البشرية والخبرات وقدمت الدعم المناسب ضمن تعاون عربي مشترك.

“الشراكة العربية لا غنى عنها” وفق زيدان. موضحاً “مصر تمتلك عقولاً رائدة في هذا المجال، والسعودية والإمارات حققتا طفرات في الاستثمار وبلدان أخرى لديها رؤى جيدة، مما يستدعي تعاوناً لتعظيم قدراتنا إذا أردنا أن نكون رقماً مهماً على المستوى العالمي”.

استثمارات واعدة

وفي أبريل (نيسان) الماضي ألقى تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية الضوء على إنشاء السعودية صندوقاً بقيمة 100 مليار دولار للاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الأخرى، وأجرت محادثات لضخ 40 مليار دولار إضافية في شركات الذكاء الاصطناعي. ووفق الصحيفة تعيد السعودية توجيه ثروتها النفطية لبناء صناعة تكنولوجية محلية، مما يتطلب من الشركات الدولية إنشاء جذورها هناك.

وتخصص الرياض في موازنة العام الحالي 38 مليار ريال سعودي (10 مليارات دولار تقريباً) في قطاع التجهيزات الأساس والنقل، الذي يشمل قطاعات منها الطرق والموانئ والاتصالات والبيانات والذكاء الاصطناعي والفضاء والمدن الصناعية.

بينما أعلنت شركة G42 القابضة الإماراتية المتخصصة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وشركة مايكروسوفت أبريل الماضي استثماراً استراتيجياً قدره 1.5 مليار دولار من “مايكروسوفت” في “G42”. ويهدف إلى تعزيز التعاون بين الشركتين لإدخال أحدث تقنيات مايكروسوفت الخاصة بالذكاء الاصطناعي ومبادرات تطوير المهارات إلى دولة الإمارات وبقية دول العالم، مستهدفة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الخدمات وتحليل البيانات بمعدل 100 في المئة بحلول عام 2031، وفق “وام”.

وبدت الدولتان الخليجيتان أكثر الدول العربية تحركاً للاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي وفق تقديرات شركة الاستشارات “برايس ووترهاوس كوبرز”، الذي يشير إلى أنه بحلول عام 2030 ستحقق السعودية أكبر المكاسب بقيمة 135.2 مليار دولار من الذكاء الاصطناعي، بينما ستشهد الإمارات أكبر تأثير بنسبة تقترب من 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

ولم تغب مصر عن هذا الحراك العربي إذ دخلت قائمة مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي في تصنيف لا يضم سوى 62 دولة حول العالم، وجاءت في الترتيب الرابع عربياً، والـ52 عالمياً بعد الإمارات (28)، والسعودية (31)، وقطر (42). وتوجت جهودها بافتتاح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أبريل (نيسان) الماضي مركز البيانات والحوسبة السحابية (P1)، لتقديم خدمات تحليل ومعالجة البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي باستخدام أحدث التقنيات العالمية.

ووفقاً للاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي فإن مساهمة الذكاء الاصطناعي ستمثل أكثر من 42.7 مليار دولار في الناتج المحلى الإجمالي المصري بحلول عام 2030، أي ما يعادل 7.7 في المئة من الناتج المحلي. وتتوقع الدراسة التي أعدتها الاستشارات “برايس ووترهاوس كوبرز” (PWC) أن تصل مساهمة الذكاء الاصطناعي لدول مجلس التعاون الخليجي (البحرين والكويت وعمان وقطر) إلى 8.2 في المئة من الناتج المحلي.

صراع على الهيمنة

يرى استشاري تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي المهندس محمد الحارثي أن الذكاء الاصطناعي “سيغير من تصنيف وإمكانات وقدرات بعض الدول، وأخرى ستتأخر اقتصادياً بسبب عدم الاستفادة منه بالصورة الأمثل لاستخداماته في آليات اتخاذ القرار، والبحث والتطوير”، مؤكداً أن “من يمتلك التقنية والقدرة على تطويرها واقتصاديتها يمتلك جزءاً كبيراً من السيطرة والنفوذ”.

ويشير تقرير لمؤشر الذكاء الاصطناعي من جامعة ستانفورد في ما يتعلق بتحويل الأفكار إلى ريادة أعمال في العالم الحقيقي، إلى تخلف الصين تاريخياً عن أميركا. ومن عام 2013 إلى عام 2022 تصدرت الولايات المتحدة جميع المناطق التي تضم أكبر عدد من شركات الذكاء الاصطناعي الممولة حديثاً بواقع أكثر من 4600 شركة، وهو ما يزيد بنحو 3.5 أضعاف العدد في الصين في الفترة نفسها.

وألقى تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية نشر في مارس (آذار) الماضي الضوء على تفوق الصين على الولايات المتحدة في أحد مقاييس الذكاء الاصطناعي المتمثل في الموهبة، من حيث بعض المقاييس باعتبارها أكبر منتج لمواهب الذكاء الاصطناعي، إذ تنتج البلاد ما يقارب نصف أفضل الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي في العالم.

وعلى النقيض من ذلك يأتي نحو 18 في المئة من مؤسسات جامعية أميركية، وتظهر النتائج قفزة بالنسبة إلى الصين التي أنتجت نحو ثلث أفضل المواهب في العالم قبل ثلاثة أعوام، وعلى النقيض من ذلك ظلت الولايات المتحدة على حالها في الأغلب.

وتحت عنوان “لماذا يعد الذكاء الاصطناعي نقطة الاشتعال التالية في التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين؟” سلطت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية الضوء على التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين المتصاعد، معتبرة أنه لا يوجد مكان أكثر شراسة بين الدولتين من الذكاء الاصطناعي.

وعلى المستوى العربي يعتقد الحارثي في حديثه إلى “اندبندنت عربية” أن المنطقة العربية “قادرة على بناء النماذج الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وتطوير التكنولوجيا الخاصة بها بعيداً من سيطرة كبرى الشركات العالمية”. وعزا ذلك إلى أنها تكنولوجيا تعتمد على الأدوات التي تمتلكها بعض الكوادر البشرية في برمجة وبناء النماذج الخاصة بالتقنية، والدول العربية عليها تشجيع القطاع الخاص للتوجه لهذا القطاع.

مبادرات طموحة وشراكات عملاقة

ويتفق مع الآراء السابقة مدير عام معهد الحكومات الاجتماعية بأبوظبي المهندس أحمد صبري الذي يهدف إلى تطوير المؤسسات الحكومية في مجال الاتصال الحكومي والذكاء الاصطناعي، مؤكداً تحقيق قفزات مهمة في مجال الذكاء الاصطناعي على المستوى العربي، منها امتلاك السعودية والإمارات آلاف الرقائق من “إنفيديا”.

واشترت السعودية 3000 من رقائق “إتش 100” من “إنفيديا” عبر جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، بينما ضمنت الإمارات الوصول إلى آلاف الرقائق من “إنفيديا”، وطورت نموذجها اللغوي الكبير “فالكون” في معهد الابتكار التكنولوجي بأبوظبي.

ولفت صبري إلى أن غالبية الدول العربية وضعت رؤى وسياسات لمدة عشرة أعوام لتطوير الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مصر، التي وضعت رؤيتها منذ أربعة أعوام. وشدد على أهمية إنشاء شركات عملاقة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، موضحاً أن تطوير هذا المجال يعتمد على الشركات لا على الدول فحسب.

وأكد صبري أن البحث والتطوير في غالبية الدول العربية ما زال في حاجة إلى اهتمام أكبر، فضلاً عن توظيف رؤوس الأموال الضخمة في إنشاء شركات جديدة واستثمار الأبحاث الجامعية. مستشهداً بأن معظم شركات تكنولوجيا المعلومات في الوطن العربي “لا يتجاوز عدد موظفيها ألف موظف”، في حين أن شركات مثل “مايكروسوفت” تضم 221 ألف موظف. وشدد على أهمية الجامعات في تحقيق الطفرات التقنية، إذ إن معظم المشاريع عالمياً خرجت من أبحاث داخل الجامعات.

اندبندنت

مقالات ذات صلة