العمليات الأمنية بدلاً من الحرب المرفوضة… ضمن «قواعد الاشتباك»!؟؟
لم يعد مستغرباً إن استأنفت إسرائيل حربها الامنية بملاحقة القادة الميدانيين في «حزب الله»، بما يوحي أنها ما زالت ضمن «قواعد الاشتباك» التي تتحكّم بأداء الطرفين في آن، وهو ما أثبتته الوقائع منذ فترة طويلة. ولكن لهذه المعادلة وجه آخر وفق مراجع محلية ودولية اعتبرتها ثمرة المساعي الهادفة الى خفض التصعيد في انتظار اللحظة التي تتوافر فيها ظروف وقف النار. وعليه، ما الذي يفسر هذه المعادلة؟
عبّرت مراجع ديبلوماسية وسياسية عن اهتمامها بالحديث، الذي تردّد فجأة عن شكل التنسيق الذي كشف عنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على هامش قمة «مجموعة السبع» في ايطاليا من اتفاق على عقد قمّة ثلاثية فرنسية ـ أميركية ـ إسرائيلية للبحث في خريطة طريق لنزع فتيل التوترات بين «حزب الله» وإسرائيل» نتيجة أي جهد يبذل من أجل وقف العدوان على غزة. وهو ما تلاقى مع ما ورد في احدى فقرات البيان الختامي للسباعية من أنّ «قادة المجموعة يعبّرون عن قلقهم البالغ إزاء الوضع على الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، وتأييدهم للجهود الأميركية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة».
كذلك أوحى الاعلان عن هذه الخطوات التي بوشر بها بين باريس وواشنطن انها انتقلت بالعلاقة بينهما الى مرحلة متقدمة. فليس دقيقاً القول انهما ينسّقان حول ما يجري في المنطقة فحسب، إنما هناك قنوات اخرى مفتوحة في أكثر من عاصمة وهي تتناول الأزمات الدولية التي تلتقي فيها القيادتان الفرنسية والأميركية جنباً الى جنب، لا سيما منها ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي اوكرانيا حيث تحولت العاصمتان رأس حربة في الجهود المبذولة لتعزيز القدرات العسكرية الاوكرانية ومَدها بالاسلحة المتطورة في مواجهة ما يسمّونه «الغزو الروسي» الذي تجاوز ما كان مُحتسباً في المعايير العسكرية والاستخبارية بعد عامين وأربعة أشهر على بدئه في 24 شباط 2022.
والى هذه الملاحظات العامة، فقد توجهت الانظار الى استكشاف ما يمكن ان يؤدي إليه التنسيق الأميركي ـ الفرنسي الذي أنهى مرحلة من الجفاء بينهما لفترة غير قصيرة، والتي ترجمت تحولاتها في فترة قياسية على امل ان تنتج خطوات يمكن ترجمتها في ساحات المواجهة الكبرى. وهي خطوات بُنيت بهدوء، وبدأت بزيارة الموفد الرئاسي الفرنسي الوزير جان إيف لودريان لواشنطن في آذار الماضي قبل ان يرد الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين له الزيارة في باريس وصولاً الى ما شهدته القمة الفرنسية ـ الاميركية نهاية الأسبوع الماضي غداة الاحتفالات بالذكرى الثمانين لإنزال النورماندي وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية التي توّجت بـ»زيارة الدولة» غير المسبوقة التي قام بها الرئيس الاميركي جو بايدن الى باريس.
وإن كان البحث قد اتخذ بالاضافة الى العلاقات بين البلدين، الأزمات الدولية من اوكرانيا الى الوضع في فلسطين المحتلة وبحر اليابان، فقد احتل الوضع في لبنان مساحة من أعمال القمة فاجأت بعض الأوساط اللبنانية التي كانت تخشى أن لا ينجح الرئيس الفرنسي في اعطائه حيّزاً مهماً، بعدما تجاهلته لقاءات النورماندي. ذلك أنّ كشف زيارة لودريان للفاتيكان ولقاءاته مع المسؤولين الكبار فيه رفعت من معنويات اللبنانيين، وخصوصاً لدى من لا يزالوان على تواصل شبه مستدام مع الدوائر البابوية، فهم يدركون حجم الجهود الفاتيكانية المبذولة في اتجاه العواصم الكبرى لدعم لبنان وانتخاب رئيس للجمهورية.
وعلى هذه الخلفيات، عبّرت المراجع الديبلوماسية والسياسية عن ارتياحها الى حجم الضغوط التي يمكن أن يقود اليها هذا التنسيق الثلاثي الأبعاد لخفض التصعيد في لبنان، ومنع الحرب الشاملة من دون التقليل من مخاطر ما يجري في الجنوب وما انتهت اليه العمليات العسكرية من شهداء وضحايا وأضرار فاقت ما هو متوقع لو بقي الأمر محصوراً بعمق محدود على جانبي الحدود اللبنانية والفلسطينية المحتلة، مع علمٍ مسبق بأهمية ان تحقق المبادرات الدولية نجاحها في التوصّل الى وقف للنار في قطاع غزة، والذي ستكون له انعكاساته المباشرة على مختلف الساحات المتأثرة بها، لا سيما منها في الجنوب اللبناني وصولاً الى عمق الاراضي العراقية والسورية واليمن ومحيطها في البحر الأحمر وما بين مضيقي باب المندب ومضيق هرمز.
وفي انتظار ما قد يتحقق على مستوى الحرب في غزة باعتبارها «أُم الازمات» الناشئة في المنطقة منذ عملية «طوفان الاقصى» و»حرب الاسناد» في 7 تشرين الاول الماضي، فإنّ في إمكان هذه المراجع الحسم في أكثر من مُعطى يتصل بالحرب في غزة، بما توافر لديها من معلومات تَسرّبت من هذه اللقاءات لتؤكد أنّ هناك ضوابط بتحاشي الحرب الكبرى التي تهدّد اسرائيل بها بيروت والمنشآت الحيوية بعد الاقرار بأنّ ما يجري لم يشكل بعد خرقاً لقواعد الاشتباك التي تأسر الطرفين.
ولمزيد من التفاصيل، قالت هذه المراجع انّ عمليات الاغتيال التي تقوم بها اسرائيل ـ وباستثناء تلك التي استهدفت القنصلية الايرانية في دمشق في 1 نيسان الماضي وما انتهت اليه من مقتل عدد من المستشارين والرد الإيراني في 13 منه على اسرائيل، فإنّ تلك الغارات التي طاولت قياديين من «حزب الله» لم تفسّر بعد على أنها خرق لهذه القواعد على قاعدة «العين بالعين والسن بالسن» بما فيها الاسلحة التي تسببت بالحرائق على جانبي الحدود، على رغم من انّ تل أبيب هي مَن بادرَت الى مثل هذه العمليات الاجرامية المرتكبة باستخدام الاسلحة الفوسفورية المحرّمة دولياً قبل ان يرد عليها الحزب بالمِثل. وهو أمر ينسحب على طريقة تعاطي الحزب مع مسلسل الإغتيالات بطريقة باردة سياسياً وقاسية عسكرياً لم يستوعبها مَن لم يُجر التصنيف بين «العمليات الامنية» والخارجة على قواعد الاشتباك.
وهي نماذج دلّت إليها طريقة تعاطي الحزب مع استشهاد نجل النائب محمد رعد ورفاقه الاربعة من قادة «قوة الرضوان» في 23 تشرين الثاني الماضي في بيت ياحون، كما بالنسبة الى اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» الشيخ صالح العاروري ورفاقه في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت في 2 كانون الثاني الماضي، وبعده بأيام (في 8 كانون الثاني 2024) القيادي وسام حسن طويل في غارة إسرائيلية على سيارة في مرجعيون وصولاً الى استشهاد أرفع قياديي الحزب طالب سامي عبد الله وعدد من رفاقه المسؤولين في بلدة جويا في 11 حزيران الجاري.
وبناء على ما تقدّم، انتهت المراجع الديبلوماسية الى التأكيد انه، وتأسيساً على ما انتهت إليه هذه القراءات لنوعية «العمليات الأمنية» وشكلها وتوقيتها، فقد اعتبرتها بديلاً من الحرب الواسعة «المرفوضة» في ردٍ اسرائيلي مباشر ليس على «الحزب» فحسب، وإنما على كل الجهود الدولية التي أطاحت ببعضها، لا سيما منها تلك التي دعمت قرارات مجلس الأمن ومحكمتي العدل والجنائية الدولية لوقف النار وغزو رفح، وصولاً الى القرار الأخير الذي اقترحته واشنطن على مجلس الأمن الدولي لوقف النار وتبنّاه. وطالما انّ الحزب لم يعترض بعد على هذه النتائج وقد تعاطى معها بما أراده، فإنها سارية المفعول والى أجل لا يمكن لأحد تقديره.
جورج شاهين- الجمهورية