في هذه الحال فقط… توقف ايران الحرب!
الحرب تتوقف إذا ضمنت إيران بقاء وكلائها و”انتصارهم”
لا تشبه الزيارة الأولى لوزير الخارجية الإيراني الجديد علي باقري كنّي لبيروت ثم دمشق، سوى الزيارات التي يقوم بها وزراء الدول الاستعمارية سابقاً ولاحقاً، إذ يوفدهم قادتهم عادةً لطمأنة الحكام الذين عيّنوهم لمستعمراتهم الى استمرارية الرعاية التي يتمتّعون بها وعدم تغيير السياسات مع تبدّل الوجوه في القيادة المركزية. كالعادة كان مرور الوزير على رئيسَي مجلس النواب والحكومة ونظيره في الخارجية بموجب بروتوكول فيه إضاعة للوقت لكنه ضروري سواء للإيحاء بأن لدى الجهة المستعمِرة “احتراماً” لـ “مؤسسات” تحت سيطرتها، أو لإطلاق مواقف موجّهة أساساً الى دول تخاصم إيران في أكثر من مجال. لكن المقصود بالزيارة هو اللقاء مع “المرشد المحلي”، الحاكم الفعلي وزعيم “حزب إيران/ حزب الله”. وبسبب احتدام المواجهة مع إسرائيل في الجنوب، وتعاظم دور “الحزب” في الإقليم، فإن اللقاء مع حسن نصر الله بات أهم من اللقاء مع بشار الأسد.
قبل مجيء باقري كنّي وبعده، وقبل الغياب القسري لإبراهيم رئيسي وبعده، لم يكن هناك ما يقلق نصر الله من ناحية النظام الإيراني، فالمُجمع عليه في الداخل والخارج أن شيئاً لن يتغيّر، أي أن حظوة “الحزب” لدى طهران باقية على ثباتها وأن غروره داخل لبنان لا يهزّه حتى إمكان أن يتلقّى ضربة موجعة/ أو أن يتعرّض لبنان لدمار كبير إذا توسّعت الحرب في الجنوب. في أوقات سابقة لم يحبّذ نصر الله التعامل مع الثنائي حسن روحاني- محمد جواد ظريف، ولم يكن مضطراً لذلك، فمرجعيته كانت ولا تزال المرشد علي خامنئي، وكان قاسم سليماني ضابط ارتباط بينهما. وبعد اغتيال الأخير نُقل بعض مسؤولياته الى نصر الله، ومنها التنسيق بين الميليشيات التابعة لإيران، وتوجيه أنشطتها في سوريا واليمن والعراق، خصوصاً في مقارعة الوجود الأميركي في المنطقة، وكذلك إيواء المعارضات الخليجية ورعايتها وتدريبها.
عدم التغيير كان التوجيه الأول الذي حرص خامنئي على المسارعة الى إعلانه قبل ساعات من العثور على جثث قتلى حادث سقوط المروحية وتحطمها. وكان موجّهاً الى الداخل، خصوصاً “الحرس الثوري” وفروعه، والى الميليشيات الولائية أينما وُجدت، من قبيل شدّ العصب لأن إيران ليست في وضع عادي بل هي منخرطة في حرب إقليمية بدأت في غزّة ثم تمدّدت، وتأمل بأن تجني منها أكبر المكاسب. والجوهري في عدم التغيير أن المرشد نفسه موجود، كذلك “الحرس”، وكلاهما لا يفكر في الذهاب الى وقت مستقطع مع أي شخصية “إصلاحية”، ثم ان هناك مجلس شورى منتخباً حديثاً بغالبية من المتشدّدين، فضلاً عن هيئة قضائية برز فيها رئيسي (عبر محاكمات سرّية وإعدامات جماعية) وترقّى الى ما بلغ مكانة أهّلته كمرشح لخلافة المرشد، رغم أن كثيرين بعد موته أنكروا تماماً أن يكون أحدٌ فكّر فيه فعلاً للخلافة، مشيرين الى أن درجته “العلمية” (الدينية) أقلّ من المواصفات المطلوبة في مَن يُرَشَّح للمرشدية. لكن آخرين يذكّرون بأن خامنئي نفسه لم يكن بمرتبة “آية الله” عندما اختير لخلافة الامام الخميني، وأنه استكمل اجتهاده لاحقاً. وإذا صحّ هذا السياق يكون مجتبى، نجل خامنئي، غير مؤهّل أبداً لخلافة والده.
ما يؤكّد هذه الخلاصة الأولية أن اختيار المرشد شهد، غداة وفاة الخميني، نقلة في المعايير، وتخللته مقايضات سياسية، فلم يعد شأناً تبتّه المرجعيات الدينية وحدها، بل خضع لتوازنات المنظومة الدينية- الأمنية. وبالتالي أصبح المطلوب للمنصب رجل دين، طبعاً، ليستحق لقب “الولي الفقيه”، لكن المطلوب أيضاً أن يكون مقبولاً من “الحرس الثوري” ومنسجماً مع أجندته وتوجّهاته ومساهماً في تطوير قدراته في المجال الأمني ودوره في الاقتصاد، كما في تغليب رأيه في الخيارات التي يتبنّاها النظام. ولم يكن اقصاء خامنئي لآية الله حسين علي منتظري وغيره من رجال الدين النافذين إلا تثبيتاً لهذه المعادلة، وتلته عمليات اقصاء عدة كانت أكثرها شهرةً تلك المتعلقة بعلي أكبر هاشمي رفسنجاني. وهكذا شكّل تفاهم الثنائي خامنئي- قاسم سليماني مثالاً لإدارة سياسات النظام، إذ ان شخصية سليماني جعلت منه أشبه بـ “الولي الفقيه العسكري”، فهو كقائد لـ”فيلق القدس” التابع لـ “الحرس” كان أكثر نفوذاً لدى المرشد من قيادة “الحرس”، وكقائد ميداني أكثر تأثيراً في السياسات من أي حكومة. وما كرّس هذا النهج أن النظام اعتمد لحماية نفسه على استراتيجية النفوذ الخارجي وتوسّعه، وكان من الطبيعي والحال هذه أن يتعاظم شأن الأمن القومي على أي شأن آخر، ولذا اشتكى محمد جواد ظريف (2021) من أن “الحرس” جعل الديبلوماسية والسياسة الخارجية “خاضعتين لاحتياجات ساحات القتال في المنطقة”.
وطالما أن هذه المنظومة باقية فهذا يعني أن أهدافها الاستراتيجية باقية، وأن أتباعها باقون أيضاً في الأدوار المحدّدة لهم، وأن المنظومة العقائدية القمعية مستمرّة في الممارسات ذاتها للمحافظة على السياستَين الداخلية والخارجية. مع ذلك استند كثير من المحللين والخبراء الى تفاصيل مقتل رئيسي ورفاقه للقول بأن الحدث فضح ما باتت عليه إيران من هشاشة تشبه هشاشة روسيا السوفياتية أواخر عهدها رغم كل مظاهر القوة التي كانت عليها، وبالتالي للاستنتاج بأن تغييراً لا بدّ أن يحصل. قد يأتي التغيير لاحقاً، على ما يتوقّعون، والأرجح بعد غياب علي خامنئي، وكان الأخير ورث أساسيات نهج الامام الخميني وطبّقها على طريقته، ويبدو حريصاً على توريثها لمن سيليه في المرشدية، وإذا كان خسر في رئيسي مرشحاً مفترضاً و”جاهزاً” لخلافته بشرط أن يبقى وفياً له ويعمل على تأهيل نجله مجتبى غير الجاهز بعد ليكون مرشداً بعده، فإن خامنئي قد يكون مضطراً الآن إما لاختصار الطريق أمام نجله، أو لاختيار مرشح آخر يقبل بالشرط نفسه ويكون متمتعاً بمواصفات رئيسي في الولاء والطاعة والاعدامات الجماعية الشهيرة.
ما يؤمّن لخامنئي ظروف البقاء حتى بعد غيابه أنه أنجز تماهياً بينه وبين “الحرس”، وأتمّ تقليص التيار “الإصلاحي”، وأمّن دوام الهيمنة للمتشدّدين كما كرّس سيطرتهم على كلّ مؤسسات النظام من “مجلس الخبراء” الى “صيانة الدستور” الى “تشخيص مصلحة النظام” الى القضاء وغيرها. استمدّ خامنئي شرعيةً من سلفه المرشد الأول الخميني، لكنه في موقعه تعرّض للكثير من النقد طوال العقود الثلاثة الماضية، إمّا بشكل غير مباشر من جانب رجال دين يفوقونه علماً واحتراماً في المؤسسة الدينية، أو بشكل مباشر من الشارع الغاضب الذي طالب مراراً بإسقاطه. لذلك فإن أي مرشد جديد لن يعتبر نفسه محصّناً بشرعية يستمدها من خامنئي ولن يكون على مستوى من القوّة يمكّنه من التمايز عن الأدوات العسكرية للنظام، وطالما أن أي قائد في “الحرس” لا يستطيع أن يكون “مرشداً” فإن أي رجل دين يرفّع الى منصب المرشد سيكون تلقائياً أداة في يد “الحرس” الذي بات متحكّماً بالدولة والتشريع والاقتصاد والتسلّح بما فيه النووي.
حكم الثنائي، المرشد- “الحرس”، ليس بوليصة ضمان لإيران وشعبه بل للنظام، وبالتالي للميليشيات وأدوارها التخريبية في المحيط العربي. والنظام يشعر الآن بأنه يقترب من لحظة قطف ثمرات هذا التخريب، وليس في أجندته بناء أي “استقرار” شدّد عليه الوزير باقري كنّي في بيروت، فـ “الاستقرار” في القاموس الإيراني هو بقاء نظام الملالي، ولو تطلّب الأمر دماراً في غزّة ولبنان، فقبلهما كان أيضاً دمار سوريا واليمن والعراق. أما القوى الدولية (وإسرائيل) المنزعجة من هذا النهج الإيراني فقد وجدت فيه دائماً ما يحقق لها مصالح ولم تستطع أن تغيّر شيئاً في مساره، والمثال على ذلك أن الولايات المتحدة لا تزال تقارب الشأن الفلسطيني بحلول مجتزأة رغم ادراكها أن دخول إيران الى هذا الملف منحها ميزة استراتيجية كبيرة. يبقى على هذه القوى الآن أن تهضم فكرة وجود نظام الملالي الى طاولة المساومات الإقليمية وكلما اقتربت من قبوله فاجأها بشروطه، إذ انه لا يرضى بأقل من تسليمه “قيادة” المنطقة العربية، أما شرطه المرحلي في المفاوضات غير المباشرة فهو أن توقف أميركا لإسرائيل حربهما لتبقى “حماس” في غزّة و”لينتصر حزب الله” في لبنان، وإلا فإنه لن يكون هناك أي وقف لإطلاق النار.
عبد الوهاب بدرخان- لبنان الكبير