إيران بين استحقاقين: ماذا سيقرر المرشد؟

ستتضح بشكل أكبر اتجاهات المعركة الرئاسية الإيرانية مع إعلان مجلس صيانة الدستور في 11 حزيران/يونيو أسماء المرشحين المؤهّلين لخوض الانتخابات التي ستُجرى في 28 من الشهر الجاري لاختيار رئيس خلفاً لإبراهيم رئيسي الذي قضى في حادثة تحطم المروحية التي كانت تقله ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان ومسؤولين آخرين فوق محافظة أذربيجان الشرقية.

المتوقع هو أن يرفض مجلس صيانة الدستور أهلية أغلبية المرشحين الذين استقرَّ عددهم عند الثمانين عند إقفال مهلة التسجيل في 3 حزيران/يونيو؛ وتتجه الأنظار لمعرفة مصير أبرز المرشحين، خصوصاً الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، ورئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف، ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، وممثل المرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي والذي كان لسنوات طويلة رئيس فريق التفاوض النووي.

وقبيل أسابيع من موعد الانتخابات، حذَّر المرشد الإيراني – السلطة الأعلى في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية – المرشحين من التراشق بالاتهامات والتشهير والإضرار بالحيثية الوطنية. فالمرشد مدرك أنه أمام استحقاق ترتيب «البيت الداخلي» في ظل تحديات يعيشها النظام من الداخل، حيث عينه على عدم ذهاب المرشحين بعيداً في استخدام المناسبة لإظهار مكامن التقصير والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والتركيز على الفساد وما شابه من تُهم من شأنها أن تُعطي صورة مهترئة عن النظام، فيما هو يعمل جاهداً على أن تُشكِّل الانتخابات، التي يُراقبها العالم، فرصة لإبراز صورة عن حجم الرضا الشعبي من خلال نسبة المشاركة الشعبية المقبولة قياساً مع الانتخابات السابقة، ولا سيما أن البلاد شهدت أشهراً من الاحتجاجات الواسعة بعد مقتل الشابة الكردية مهسا أميني على يد «شرطة الأخلاق» خلال اعتقالها بتهمة مخالفة ضوابط اللباس الشرعي.

وقال وزير الأمن إسماعيل الخطيب إنه أصدر «التحذيرات اللازمة لمن يتبنّى نهجاً هدَّاماً» وأخبر اللجنة المشرفة على الانتخابات أن وزارته تُراقب سلوك المرشحين وأنصارهم عن كثب، وذلك وفق توجيهات خطاب المرشد في الذكرى الـ35 لرحيل مؤسس الثورة الإمام الخميني.

خطاب المرشد حدَّد مواصفات الرئيس وأولوياته، إذ اعتبر أن «الشعب الإيراني يحتاج إلى رئيس نشيط ومثابر، وملمّ ومؤمن بمبادئ الثورة، من أجل الحفاظ على مصالح الشعب وتثبيت عمقه الاستراتيجي في المعادلات الدولية المعقّدة».

كانت إيران، قبل مقتل رئيسي، قد قطعت شوطاً في مفاوضات غير مباشرة مع الأمريكيين استضافتها مسقط، ومن عناوينها الرئيسية الملف النووي الإيراني، الذي توقفت محادثات إعادة إحيائه أو صياغة اتفاق مرحلي بشأنه. وقد كشف موقع «إكسيوس» تلك المحادثات، التي وصفها «منظرو المحور» بأنها شكَّلت خرقاً على مستوى النزاع في المنطقة، ومنع توسّعه وضبط ما يُسمى بـ«جبهات الإسناد» لغزة، التي تُشعلها أذرع إيران من البحر الأحمر إلى العراق وسوريا ولبنان.

بدا واضحاً أن ثمة قلقاً أوروبياً من الإمكانات التي أضحت متوفرة لدى إيران على مستوى كميات اليورانيوم المخصّب بنسبة 60 في المائة وأعداد أجهزة الطرد المركزي في غياب أي مراقبة دولية، وأن الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) ذاهبة إلى رفع السقف ضد طهران في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة النووية الدوري الذي عُقد في 3 حزيران/يونيو حيث قامت الدول الـ35 الأعضاء في هذا المجلس، من جديد، بمراجعة ملف الأنشطة النووية الإيرانية، وذلك بالاستناد إلى تقرير الوكالة التابعة للأمم المتحدة، ومديرها العام رافائيل غروسي في شأنها.

أفضت القنوات الخلفية والمباشرة إلى زيارة غروسي لطهران في 6 أيار/مايو، واجتماعه في ذلك الوقت مع وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، ومساعده للشؤون السياسية والمعني بشؤون مفاوضات الملف النووي علي باقري كني، ورئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي. وخرج بانطباع مفاده أنها «المرة الأولى، منذ أكثر من عام، التي تُبدي فيها إيران استعدادها للمشاركة في حوار جاد مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وللحديث عن قضايا «ملموسة»، وفق ما قاله في مقابلة مع صحيفة «فايننشال تايمز»، مضيفاً: «أعتقد أنهم توصلوا إلى إدراك أنه من الأفضل أن يكون هناك بعض التفاعل بدلاً من الاستمرار في مسار مختلف تماماً، مسار يؤدي إلى المزيد من التوترات وربما المزيد من المخاطر، بما في ذلك الحرب».

وهو اقترح في تلك الزيارة إعادة إحياء الاتفاق الذي تمَّ التوصل إليه خلال زيارته لطهران في آذار/مارس 2023، والذي كان من المفترض بموجبه أن تُعيد إيران تشغيل كاميرات المراقبة التي أوقفتها في ظل توترات في العلاقة مع المجتمع الدولي وتعثّر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، الذي انسحبت منه أمريكا عام 2018 في عهد دونالد ترامب، وأعادت فرض عقوبات على طهران في إطار سياسة «الضغوط القصوى» التي انتهجتها الإدارة حينها، ما حدا بإيران إلى التراجع عن كثير من التزاماتها الأساسية، أبرزها مستويات تخصيب اليورانيوم.
كان انطباع الصحافة الإيرانية هو أن زيارة غروسي يمكن أن يكون لها تأثير مهم على مستقبل مفاوضات طهران مع القوى الأعضاء في «خطة العمل الشاملة المشتركة»، وأنها تُعيد فتح القنوات الدبلوماسية بين طهران والغرب بعد فترة من التوتر والغموض في العلاقات بين طهران والوكالة، ولكنها في الوقت نفسه كانت قلقة من أن يتخذ مجلس المحافظين قراراً تنعكس آثاره على برنامج إيران النووي، ومسألة العقوبات المفروضة على طهران. وعبَّرت في حينها صحيفة «آرمان أمروز» أن إيران ترغب في التوصل إلى اتفاق مع الوكالة، وتباعاً مع الولايات المتحدة قبل الانتخابات الأمريكية المقبلة، واحتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب.

تغيَّر حال المتفائلين على الضفتين، إذ أصابتهم حالة من الاهتزاز والضياع بعد مقتل رئيسي وعبد اللهيان المفاجئ في توقيت سياسي واستراتيجي دقيق وحساس جداً.

في المحصلة، ورغم رغبة الولايات المتحدة في استصدار قرار من مجلس المحافظين يدين طهران خشية تصعيد التوتر في الشرق الأوسط، تبنّت الوكالة في ختام اجتماعها في فيينا قراراً قدَّمته الترويكا الأوروبية ينتقد إيران لعدم تعاونها بشأن تكثيف برنامجها النووي، وافقت عليه 20 دولة من أصل 35 من بينها أمريكا، وامتنعت 12 دولة، وصوّتت الصين وروسيا ضد القرار وغاب عضو واحد.

والقرار أسف مرة أخرى لعدم وجود «أجوبة تقنية ذات صدقية»، تتصل بوجود آثار لليورانيوم من دون سبب في موقعين لم يُعلن عنهما. وأشار الى أنه «من الضروري والملحّ» أن تُوضح طهران الوضع، وتُسهِّل الوصول إلى الموقعين المعنيين. ولفت إلى أنه قد يطلب من غروسي إعداد «تقرير كامل».

الترويكا الأوروبية، التي شكَّل القرار انتصاراً لها، شدَّدت على وجوب أن تتعاون إيران مع الوكالة والإتيان بتوضيحات ذات مصداقية فنية من شأنها أن تجيب عن تساؤلات الوكالة. وأملت أن تستغل إيران هذه الفرصة من أجل إنهاء هذه المسائل المعلّقة كي لا يضطرّ المجلس إلى اتخاذ إجراءات إضافية. لكنها في الوقت نفسه أكدت على أن تتعاون إيران مع الوكالة على نحوٍ فعّال؛ وإذا ارتأى المدير العام أن إيران قد تجاوبت بشأن المسائل المعلّقة والمتصلة بتطبيق الضمانات، فيستطيع المجلس آنذاك أن يُنهي النظر في هذه المسألة.

من الطبيعي أن يأتي رد إيران رافضاً لما تضمنه قرار مجلس المحافظين، ولا سيما لجهة أن البرنامج النووي الإيراني قد وصل إلى نقطة متأزمة لا رجعة فيها، وأن الأنشطة النووية تُشكِّل تهديداً للأمن الدولي.

ولكن ما زاد من قلق المجتمع الدولي عموماً والأوروبي خصوصاً والقوى الإقليمية، هو تزايد التصريحات العلنية الأخيرة في إيران حول احتمال حصول تغييرات في العقيدة النووية، والتسريبات عن القدرات الفنية للبلاد لإنتاج أسلحة نووية وسط تقديرات عن تجاوز كمية اليورانيوم المخصَّب نسبة الـ60 في المائة (2 طن)، وسرعة انتقالها إلى التخصيب من 60 في المائة إلى 90 في المائة بما يُمكِّنها من إنتاج أسلحة نووية. يجري الكلام اليوم عن قدرة إيران على إنتاج ما بين سلاح إلى ثلاثة أسلحة نووية.

في واقع الأمر، لا يمكن الاتكاء على الفتوى التي أصدرها المرشد علي خامنئي مطلع الألفية التي تقضي بتحريم صنع أسلحة نووية، وأعاد في عام 2019 الإشارة إلى أنه رغم امتلاك إيران تكنولوجيا نووية فإنها عزفت عن ذلك، وأن صنع وتخزين قنابل نووية خطأ واستخدامها محرَّم. فتلك الفتوى يمكن تعديلها أو إلغاؤها من خلال فتوى ثانية، وفق ما تتطلبه مصلحة النظام، لا بل استراتيجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي يرى كثيرون أنها كانت وما زالت تقوم على الانضمام إلى نادي الدول النووية، باعتبار أن الحصول على السلاح النووي من شأنه أن يكفل حماية نظام ولاية الفقيه لعقود مقبلة، وأنّ كل ما يجري من تفاهمات حيناً، ومناكفات حيناً آخر، وخلافات أحياناً، ليس سوى عملية تمرير وقت إلى حين أن يستفيق العالم يوماً على إعلان إيران نفسها دولة نووية فاتحة منطقة الشرق الأوسط على المجهول.

رلى موفق- القدس العربي

مقالات ذات صلة