أبو عبيدة بخير..وإسرائيل تتكتّم!
لا شك أن كتائب “القسام” عمدت من إعلانها المفاجئ عن قتل وأسر جنود إسرائيليين خلال “كمين نفق” في جباليا شمالي قطاع غزة، أن يتخذ مشهدية دراماتيكية “ذات تأثير”، في سياق حرب نفسية وإعلامية مع الاحتلال، بشكل مواز لمعركة الميدان المتواصلة منذ نحو 8 أشهر.
واللافت أن جيش الاحتلال لم يهمل الإعلان، ولم ينتظر طويلاً، حتى خرج متحدثه العسكري بسرعة عاجلة، وبشكل غير عادي، كي ينفي إعلان الناطق باسم “القسام” أبو عبيدة بشأن وقوع أسرى جنود جدد في أيدي مقاتليها.
ثم أصبح نفي الجيش الإسرائيلي عنواناً رئيسياً في النشرة الصباحية للتلفزيون الإسرائيلي الرسمي، لكن المراسل العسكري لـ”مكان” اكتفى بسردية النفي الإسرائيلي الرسمي لإعلان القسام المرفق بفيديو لـ”كمين النفق”، ولم يخض هذا المراسل كثيراً في تحليل الفيديو، ولم يقدم قراءة إضافية.
ورصدت “المدن” أن مذيع النشرة الصباحية لـ”مكان” أعاد طرح السؤال مرة أخرى على المراسل العسكري، بقوله: “لنتحدث أكثر عن الجندي الذي اختُطف”، ثم رد عليه المراسل العسكري باستهجان: “لم أسمعك”، ثم سارع المذيع إلى الحديث عن موضوع آخر. ولا يُعرف إن كان المذيع كرر سؤاله عن إعلان القسام “سهواً”، أم أنه تدارك ذلك، وانتقل إلى موضوع آخر؛ لمقتضيات الرقابة العسكرية.
لكن، ما كان واضحاً أن متابعة الإعلام الإسرائيلي لبيان “القسام” تراجعت في الساعات الأخيرة، مقارنة باهتمامه به في اللحظات الأولى.
تحليلات.. بانتظار المعطيات
والحال أن إعلان “القسام” مرفقاً بفيديو يوثق لما قالت إنها موقعة أسر الجنود، قد أثار تحليلات وتأويلات فلسطينية وعربية، وأيضاً إسرائيلية، في محاولة لفهم المقصود من الإعلان، والسبب الذي دفع الجيش الإسرائيلي إلى النفي بهذه السرعة.
وبينما ترك فيديو “القسام” جملة: “هذا ما سُمح بنشره.. وللحديث بقية”، اعتبر محللون أن الفيديو لم يقدم معطيات حاسمة لعملية الأسر، لدرجة تكذب رواية الاحتلال. في حين أفاد متخصصون بالشأن الإسرائيلي لـ”المدن” بأن الأمر لا يحتاج إلى تحليلات، بقدر ضرورة الانتظار لمعطيات أخرى قد تُنشر في الأيام القادمة، “علّها تؤكد عملية الأسر.. أو توضح المقصود”. وتساءل متخصصون بشأن ما إذا كان المقصود احتجاز القسام “جثث جنود قتلوا حديثاً في معارك جباليا، وليسوا أحياء”.
بيد أنّ ما يمكن استنتاجه من معالجات الإعلام العبري للأمر، هو أن الرد السريع من الجيش الإسرائيلي على إعلان القسام يؤشر إلى أنه كان “مدروساً”، من منطلق أنه لا يمكن لجيش الاحتلال مهما أخفى الحقيقة، أن يجازف بالجزم بعدم أسر أي جندي له حديثاً، في حين أن “القسام” قد تنشر صورة وإسم الجندي “الأسير” لاحقاً؛ ذلك أنه حينها سيفقد هذا الجيش المصداقية أمام الإسرائيليين… وهو أمر دفع مراقبين فلسطينيين وإسرائيليين إلى اعتبار أن إعلان القسام، ونفي الجيش الإسرائيلي، كلاهما “يجب أخذهما على محمل الجد، بعيداً من العاطفة والتحليل”.
كما ذهبت صفحات إسرائيلية في مواقع التواصل الاجتماعي إلى تحليل صورة لما قالت “القسام” إنها لجندي أثناء سحله على يد مقاتليها داخل نفق خلال عملية “كمين النفق”، كما توقفت عند صور أسلحة تم عرضها على أساس أنها للقوة الإسرائيلية التي تعرضت للكمين. وأشار بعض الإسرائيليين إلى أن اللباس لا يدل على أنه لجندي إسرائيلي، رغم أن بعض الفلسطينيين رجحوا أن يكون لباس “قوة نخبوية” إسرائيلية. وزعم صحافيون إسرائيليون أن صورة السلاح المنشورة تظهر أنه سلاح “تشيكي.. لا إسرائيلي”.
ما وراء الحرب النفسية؟
وبغض النظر عن المعطيات، والتحليلات، وتناقض روايتي القسام والجيش الإسرائيلي، فإن ذراع “حماس” العسكرية بدت وكأنها قصدت من الترويج استباقياً لـ”إعلان مهم.. ومفاجئ”، ومن ثم دفع فلسطينيين وعرب وإسرائيليين إلى انتظار كلمة أبو عبيدة، مروراً بالاستماع إليها.. أن تصعد حرب الأعصاب ضد إسرائيل، لزيادة الضغط النفسي عليها، خاصة وأن ذلك جاء في توقيت أُعلن فيه عن استئناف مفاوضات تبادل الأسرى، فهذه التزامنية تعزز تفسير الإعلان في هذا السياق، بمنظور مراقبين.
وخلال فترة انتظار الجميع لكلمة أبو عبيدة الليلة الماضية، بادرت جهات رسمية في تل أبيب إلى تحريض الرأي العام الإسرائيلي، بأن ما سيقوله أبو عبيدة جزء من “حرب نفسية لضرب تماسك المجتمع الإسرائيلي، وجعله مشككا برواية إسرائيل الرسمية، وإعلامها”.
في المحصلة، دلّ إعلان ناطق “القسام” عن عملية “الأسر”، ومن ثم نفي ذلك من ناطق “الجيش” بسرعة قياسية، على أهمية المعركة النفسية والإعلامية الموازية للقتال الجاري في القطاع منذ أشهر، لكن هذه المعركة تتخذ شكل “الموجة”، تشتد حيناً، ثم تهدأ حيناً آخر، ويبدو أن سبب تباين وتيرتها يعود إلى ارتباط الأمر بسياقات حدثية وسياسية، إذ يسعى كل طرف إلى استثمار وقائع الميدان لتقوية موقفه التفاوضي في مباحثات وقف إطلاق النار، ومجالات سياسية أخرى.
وهنا، أفاد متخصصون بشؤون الفصائل الفلسطينية في غزة لـ”المدن”، بأن فيديوهات وإعلانات القسام الأخيرة عن قتلها وجرحها عدداً كبيراً من جنود إسرائيليين خلال معارك في جباليا ورفح، لا تخلو من رسائل سياسية لـ”حماس” مفادها أنها “لم تنتهِ، بدليل حضورها الفاعل في الميدان”، وبالتالي ترسيخ وجودها في اليوم التالي للحرب، عبر تأكيد حضورها خلال الحرب.
الإعلام.. دليل البقاء!
تجدر الإشارة إلى أنّ إسرائيل وضعت منذ اليوم الأول لحربها على غزة القضاء على الجهاز الإعلامي لـ”القسام” في سلم الأولويات، من منطلق اعتقاد الدوائر الأمنية الإسرائيلية بأن تحييد قدرات حماس الإعلامية مطلب “مهم” لإنهاء الحركة عسكرياً وسلطوياً.
وخلال أشهر الحرب، غاب الناطق العسكري أبو عبيدة لفترة من الزمن، لدرجة استدعت طرح استفسارات عن سبب الغياب، خاصة أن صفحة “القسام” في “تيليغرام” ارتأت حينها أن تنشر بياناتها العسكرية بشكل مكتوب، لا بصوت أبو عبيدة.. وتساءل الإعلام العبري وقتها عن سبب الغياب، وما إذ كان نتيجة تعرضه للإصابة أو الاغتيال.
لكن أبو عبيدة عاد بعد ذلك من جديد ليلقي بصوته بيانات المجلس العسكري للقسام، في مسعى من الأخيرة أن تقول لإسرائيل أن جهازها الإعلامي “ما زال بخير”، وكأنّ قوته واستمراريته..دليل على قوة “القسام” في الميدان، وبقاء حماس.
هي علاقة تبدو “طردية” بين حضور “القسام” الإعلامي.. وحضورها الميداني في غزة بعد ثمانية أشهر من الحرب.
المدن