هيمنة التيار المتشدد بإيران ستحسم مصير موقعي الرئاسة والولي الفقيه!

تكثر التكهنات والتحليلات قبل كل عملية انتخابات رئاسية في إيران عمن سيكون الرئيس المقبل وكم سيؤثر فعلا على سياسة الدولة. الا أن التجارب التي شهدتها الساحة الإيرانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة أظهرت أن هوية الرئيس وميوله السياسية كان لها تأثير محدود جدا على صنع القرار إذ إن الرئيس في نهاية المطاف واجهة يستخدمها الولي الفقيه ليحملها مسؤولية أي إخفاقات وتجنب تحمل أي عواقب لأي قرارات خاطئة للدولة. ولقد زاد تغلغل الحرس الثوري في أروقة الدولة بشكل متصاعد منذ وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد سدة الحكم حيث بات الحرس اليوم يسيطر على مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية، والإعلامية، والأمنية، والعسكرية.

حسب الدستور الإيراني، الولي الفقيه هو الآمر الناهي في كل شيء لدرجة أنه يستطيع أن يلغي نتائج انتخابات تشريعية ويقيل ويعين من يشاء في أي من مناصب بالدولة، كما أنه صاحب قرارات الحرب والسلم والاتفاقيات مع الخارج. وبالرغم من أن الدستور يعطي رئيس الجمهورية المنتخب صلاحيات تنفيذية واسعة، الا أنها تبقى عرضة لحق النقد من الولي الفقيه. هذا الواقع لم يلائم بعض من وصلوا الى سدة الرئاسة وأبرزهم آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني. فهو كان من التيار المحافظ، الا أنه كان من كبار تجار البازار وأثرياء طهران. وكان يحبذ تحسين العلاقات مع العرب والغرب وتسخير قدرات إيران الاقتصادية لتوسيع نفوذها في المنطقة وعدم الاتكال فقط على الوكلاء والنشاط العسكري.

قوة شخصية ونفوذ رفسنجاني جعلته في تنافس دائم مع آية الله علي خامنئي. فرفسنجاني وصل الى مواقع رفيعة بالدولة مثل رئاسة البرلمان ورئاسة مجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام. كما كان من أبرز المرشحين لخلافة خامنئي، الا أن الأخير قام بإقصائه من عدة مواقع لاحقاً وعمد الى تحجيمه ومنعه من الترشح لانتخابات الرئاسة عام2013، خاصة بعد أن أيد الاحتجاجات ضد نتائج الانتخابات لعام 2009 التي أبقت أحمدي نجاد في الرئاسة لدورة ثانية. ولقد توفي رفسنجاني بشكل مفاجئ عام 2017، وتحدثت التقارير الرسمية عن أزمة قلبية كسبب لموته في حين اعتبر أفراد العائلة بأنه قتل من قبل أجهزة النظام.

خليفة رفسنجاني في الرئاسة كان محمد خاتمي، الزعيم الإصلاحي الذي فاز في الدورة الأولى بسبعين في المئة من الأصوات. خاتمي سعى لتعزيز القوة الناعمة لإيران عبر الدبلوماسية والاعلام. فكان صاحب مبادرة حوار الحضارات عام 2001 والتي تبنتها الأمم المتحدة وهي جاءت لتناقض نظرية صاموئيل هنتغتون عن صراع الحضارات. فشهدت تلك الحقبة انفتاحاً دولياً لم تشهده إيران لا قبل ولا بعد خاتمي حتى هذا اليوم. لكن أحداث11 سبتمبر 2001 وما تلاها من غزو أميركي لدولتين على حدود إيران المباشرة – أفغانستان والعراق – قلب المزاج بشكل كبير في طهران ورفع مستوى الشعور بالتهديد في أوساط القيادة الإيرانية.

وانعكس ذلك على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أتت بأحمدي نجاد الذي فتح الباب على مصراعيه لقيادات الحرس الثوري لتسيطر على أهم مناصب الدولة وتمسك باقتصاد البلد عبر منح امتيازات احتكارية لمؤسسات الحرس. ولم تسمح القوى المحافظة المتشددة بهزيمة أحمدي نجاد بانتخابات عام 2009 وشهدت البلاد أول انشقاق في صفوف قيادات الثورة الإسلامية على أمور عدة تشمل شكل الحكم ومستقبله وخصوصا امكانية تقليص سلطات الولي الفقيه وحصرها بالشؤون الدينية. وبعد عملية قمع شديدة خرج معظم قيادات ما كان يعرف بالتيار الإصلاحي من اللعبة السياسية، وبقي التيار المحافظ بجناحيه المعتدل والمتشدد.

خلف الرئيس حسن روحاني عام 2013 الرئيس أحمدي نجاد، واعتبر ممثلاً للتيار المحافظ المعتدل. لكن فترة حكمه شهدت اختراقاً كبيراً على عدة جبهات. فلقد توصل الى الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة الذي أدى الى رفع العقوبات وانتعاش الاقتصاد لفترة جيدة. كما شهدت فترة حكمه تنامي دور الحرس الثوري الإيراني على الساحة الدولية حيث كرس سيطرته على العراق وسوريا مستغلاً الحرب على داعش. كما عزز وجوده العسكري والسياسي على اليمن عبر دعم وتسليح الحوثيين. وأدى انسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي وعودة العقوبات وفشل مساعي طهران للتوصل الى اتفاق جديد مع واشنطن ومن ثم مقتل قاسم سليماني، الى ضعف روحاني وتياره وصعود مرشح المحافظين المتشددين إبراهيم رئيسي وفوزه في انتخابات شهدت أدنى نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

وبعد أن تم اضعاف وابعاد التيارات الإصلاحية والمحافظة المعتدلة، واقصاء أي مرشح غير متشدد عن المشاركة بالانتخابات التشريعية بات التيار المتشدد يستأثر بالحكم بشكل مطلق. هذا رفع من منسوب الثقة لديه وبات أكثر استعداداً للانفتاح إقليمياً واللعب بشكل قوي على الساحة الدولية. فليس هناك من يحاسبه من داخل النظام، وأي تحركات شعبية يتم قمعها فوراً. وأي صراع حالي داخلي هو داخل التيار المتشدد، وتحديداً حول من يكون صاحب القرار في الموقع الأهم: الولي الفقيه. مسألة خلافة خامنئي باتت مطروحة بقوة خاصة بعد مقتل رئيسي في حادث سقوط طائرة الهليكوبتر والتي تدور شبهات قوية حول إذا ما كانت نتيجة عمل مدبر داخلياً لإزاحته كمرشح قوي لخلافة خامنئي.

بناء على ما تقدم، فان التيار المتشدد في إيران لن يسمح لأي شخص من خارجه أن يترشح أو حتى الفوز في الانتخابات لاختيار خليفة رئيسي. هذا طبعاً سيؤدي لبقاء نسبة المشاركة الشعبية بالانتخابات متدنية. لكن الرئيس المقبل لن يغير بالسياسات الإقليمية والدولية التي كان ينفذها رئيسي لأنها تنال دعم ورضا خامنئي. وعليه، يتوقع أن تبقى سياسة الانفتاح مع دول الخليج وتستمر محاولات احداث اختراق في ملف المفاوضات مع أمبركا ومنع التصعيد العسكري المباشر مع إسرائيل. كما سيستمر الحرس الثوري بالهيمنة على الاقتصاد والشؤون الأمنية والعسكرية للبلاد وتأثيره الكبير على السياسة الخارجية عبر توجيه وكلائه في العراق وسوريا ولبنان واليمن لتنفيذ أجندات تخدم مصالح طهران.

غياب أو انحسار التنافس بين التيارات السياسية الإيرانية وهيمنة جهة واحدة – التيار المحافظ المتشدد – ستحافظ على درجة عالية من الاستقرار السياسي في البلاد. وبما أن هذا التيار يملك القدرة على اختيار المرشحين مستقبلا لموقع الولي الفقيه لامتلاكه القدرة على اقصاء أي منافس، فهو بلا شك سيعمد لإيصال أحد أفراده. وقد يؤدي شعور الاطمئنان داخل هذا التيار من عدم وجود منافسين داخليين يهددون استئثاره بالحكم الى أخذ خطوات أكبر وأكثر جرأة مستقبلا نحو الوصول الى تسويات مع قوى إقليمية وغربية من أجل رفع العقوبات. لكن هذا لا يعني أن إيران ستتوقف عن سعيها لتكون قوة إقليمية رئيسية ذات وزن دولي كبير. كما أن هذا لا يعني أنها ستتخلى بشكل مطلق عن وكلائها. بل ستقوم باستثمارهم بشكل يتناسب ومتطلبات المرحلة المقبلة. كما أن إيران لن تتخلى عن برنامجها النووي والذي بدأ في عصر رئيس إصلاحي. فهذا البرنامج بلغ مرحلة باتت إيران تقنيا دولة على عتبة سلاح نووي. مقتل رئيسي لن يغير بنهج النظام الحالي، بل فتح الباب لوجه جديد في موقع الرئاسة وحصر المنافسة على منصب الولي الفقيه.

رياض قهوجي- النهار العربي

مقالات ذات صلة