الضوء على الداخل الإيراني: لماذا يعتقد كثيرون أنّ وراء مقتل رئيسي “حدثاً جللاً”؟
ثمّة زاوية واحدة تهم غالبية المتابعين لمقتل الرئيس الإيراني و”صحبه” بعد تحطم المروحية التي كانت تقلّهم. زاوية تندرج تحت عنوان “الإغتيال”.
كثيرون يرفضون أن يصدّقوا بأنّ حادثًا كالذي أودى بحياة رئيسي “معقول جدًّا”، خصوصًا إذا حصل وسط حالة مناخية سيّئة وفي منطقة تكثر فيها التضاريس الجغرافية. بالنسبة لهم، إنّ دولة تصنع الطائرات المسيّرة لا يمكن أن تتجاهل إنْ كانت المروحيّة الرئاسية قادرة على مواجهة التدهور في الحالة المناخية والتعقيد في التضاريس الجغرافية.
بالنسبة لهؤلاء، هناك حقًا من يقف وراء ما حصل لرئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، وإلّا لماذا سارعت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية الى نفي أيّ دور لهما في ما حصل، بينما عرضت روسيا الإتحادية خدماتها للمساعدة في التحقيق، وذلك على سبيل المثال لا الحصر؟
إنّ مجادلة هذه الفئة من الناس تبدو مهمة مستحيلة، خصوصًا وأنّ اعتقادهم بحصول “أمر جلل” يأتي في زمن يُشجع على ذلك، ففي الداخل الإيراني، حتى في صفوف المتشددين الذين ينتمي إليهم، وبغض النظر عن الإصلاحيين والمعتدلين والمعارضين الذين نكّل بهم أو شكل غطاء للتنكيل بهم، هناك من يملك مصلحة في التخلّص منه، وفي الخارج، هناك، في حمأة الحرب على غزة والدعم الإيراني ل”حماس” و”جبهة المقاومة” من يريد أن يُلحق أذى بسمعة إيران، من خلال تصويرها أعجز من أن تحمي رموزها تقنيًّا، فمن يأخذ الآخرين بمسيّراته التي يتم استعمالها ضد الشحن البحري في البحر الأحمر وضد إسرائيل من جنوب لبنان والعراق، وفي أوكرانيا من قبل الجيش الروسي، يؤخذ بمروحية تحت قيادته!
إذن، وأمام هذه الوضعيّة، لا بد من أجوبة واضحة تقدمها السلطات الإيرانية مدعومة بالأدلة عن الأسباب التي أدت الى سقوط المروحيّة الرئاسيّة!
وعلى الرغم من أنّ رئيسي لا يصنع التوجهات الإستراتيجية للجمهورية الإسلامية في إيران، إذ إنّ القوة الحقيقية فيها تكمن بيد المرشد علي خامنئي و”جيشه التنفيذي”، أي “الحرس الثوري الإيراني”، إلّا أنّ رئسي ليس تفصيلًا في الحياة السياسيّة الإيرانية، فهو واحد من أبرز رموز التشدد، وقد سُكب حبر كثير، يوم جرى تمهيد الطريق أمامه للوصول الى رئاسة الجمهورية، بحيث كان واضحًا أنّ القيّمين على النظام الإيراني، إنتقلوا من مرحلة مخاطبة العالم الخارجي والشعب في الداخل، بلغة “المعتدلين”، وقرروا التعاطي مع الجميع من موقع “التشدد”.
وكان وصول رئيسي الى رئاسة الجمهورية، في ظل الضعف البنيوي للمرشد الذي يصارع الشيخوخة وأمراضها، بمثابة إنذار قوي الى الجميع بأنّ إيران ذاهبة الى مكان آخر، بحيث تكون المواجهة كما المصالحة، مع “أصحاب النظام”، أي الجناح الأكثر تشددًا!
وأعطت هذه الرسالة أملًا كبيرًا لتنظيمات “جبهة المقاومة” فعصرها الذهبي اطل، إذ إنّ ما يحصل في إيران سوف يحصل في الأماكن التي لإيران فيها أذرع، بحيث تنتقل تنظيمات “جبهة المقاومة” من العمل خلف “أقنعة الإعتدال” الى العمل مباشرة، الأمر الذي بدا كأنّه تمهيد لا بد منه لحرب “طوفان الأقصى” بعد استكمال العمل على “تلاحم الجبهات”، بكل ما تحمله من أسباب جوهريّة تتخطى إسرائيل لتشمل جميع الدول العربية والإسلامية، إذ إنّها لا تهدف فقط الى قلب الطاولة على “اتفاقيات ابراهيم” المعقودة أو كانت في طور البلورة، بل الى تغيير توجهات الأنظمة نفسها تحت طائلة “انقلاب الشعوب على حكوماتها”، وفق ما عاد وصرّح به، قبل أسابيع قليلة، المرشد الإيراني علي خامنئي!
وعلى هذا الأساس، فإنّ كثيرين في الجمهورية الإسلامية كانوا يعتبرون أنّ رئيسي كان خليفة محتملة للمرشد الحالي، إذ إنّه في كل الوظائف التي شغلها، “أبدع” في التعبير عن إرادة “الملالي” و”المرشد” و”الحرس الثوري”، أي للفئات التي تشكل الاكثرية الساحقة في الهيئة “الصانعة” للمرشد، وعلى خلاف ما كانت عليه حال الرئيس السابق حسن روحاني، لم يتعرّض رئيسي لأيّ انتقاد، هو وإدارته، من قبل هذا “الثالوث” المتحكم بالنظام الإيراني.
ماذا يعني كل ذلك؟
إنّ مقتل رئيسي لن يغيّر أي شيء بالمعطى الإستراتيجي، إذ إنّ من يحلّون مكانه، سواء في المرحلة الإنتقالية أو في ضوء الإنتخابات، سيكونون من خطه المتشدد، ولكن سوف تكون لذلك تداعيات داخلية حقيقيّة، إذ إنّه يؤثر على الوراثة المقبلة للخامنئي، و”يقدّم انتقامًا” لخصومه الكثيرين في إيران، وهو من تولّى اضطهادهم لسنوات طويلة وعاد وغطّى على هذا الإضطهاد.
وبهذا المعنى، فإنّ “نظرية الإغتيال” إن صحّت، في موضوع مقتل رئيسي، فهي تفترض تسليط الضوء على الداخل الإيراني أكثر بكثير من الخارج!
فارس خشان- النهار العربي