أزمة التصحر التلفزيوني: رابعة الزيات وآخرون..”الاستغلال الاعلامي” كمؤازرة قضائية؟

أزمة التصحر التلفزيوني، تجددت مع قضية “الاغتصاب والتيكتوكرز”، وإذا كان مقياس التصحر التلفزيوني في السابق يقوم على الخشية من عدم إيجاد مواضيع، فاليوم يُضاف على هذا التعريف اختيار مواضيع عشوائية ستنال حتماً إعجاب الجمهور من دون أن تكون ذات غاية أو منفعة عامة.

ورغم فائض البرامج التي تبث على القنوات المحلية في لبنان، إلا أن الفائض لا يمكن أن يُقاس نسبة الى العدد أو النوعية، وإنما بناءً على التكرار في الطرح، والأسلوب المتبع في إخراج المواضيع بالقوالب نفسها التي تقوم على قاعدة الجذب ثم الوعي، علماً أن تحقيق الأخير ليس شرطاً وانّما مجرد غطاء لتبرير كل ما يسول للاعلام اظهاره الى العلن، بحركة دفاعية يسعى من خلالها الى تبرأة نفسه أمام وابل من النقد.

وبالوقوف على ذلك، يمكن تلخيص الأزمة الإعلامية بأنّها أزمة تصحّر، وأزمة أخلاقية. وقد كشفت قضية “التحرش” أن الاعلام التلفزيوني يتخبط في الحفاظ على مكانته، إذ أن دوره، وبحسب النمط الجديد، يقوم على استضافة شخصيات تحتفظ بعدد كبير من المتابعين أو “followers”، على اعتبار أن هؤلاء المتابعين يوازون حجم الجمهور، وبالتالي تصبح القاعدة التي يكرسها الاعلام لنفسه هي: حصولك على عدد كبير من المشاهدات والمتابعين يساوي حظوظاً أكبر في الظهور على شاشته! أو بكلمات أخرى، العدد يساوي القبول والأخير يعادل الشرعية.

انتهى الزمن عندما كان الاعلام يصنع الشخصيات العامة، يبحث عنها، يتحقق من انجازاتها ثم يمنحها المنبر، وبتنا اليوم نشهد خروج شخصيات من رحم وسائل التواصل الاجتماعي لا بد لها أن تتمثل بشيء من “الغرابة” أو “الابتذال” حتى تستحق النشر… بعد الإنتشار!

لكن، على عكس ما يعتقد الكثيرون، فإن الاعلام الحالي هو نفسه تسبب في اضمحلال قوته، بعدما بات يعتمد بشكل كلّي على وسائل التواصل الاجتماعي لاختيار ضيوفه. وعليه، صار دوره يكتفي بتضخيم هذه الشخصيات بعد احالتها من المنصات الالكترونية الى التلفزيون، كما الحال بالنسبة إلى جورج م.، الحلاق المتهم بجرائم اغتصاب أطفال، والذي بدت تفاهته القذرة بالنسبة إلى الإعلام، “خفّة ظِل”.

هذا الواقع يطرح تساؤلات عديدة حول المشاكل الداخلية التي يعانيها الاعلام التلفزيوني، فهل ما نراه هو دليل على مشكلة تقنية تتلخص في صعوبة الوصول الى القضايا وبالتالي هي أزمة بحث من قبل المعدّين؟ أم أنها مشكلة جماهيرية تختصر في تراجع عدد المشاهدات واستعانة الاعلام بالمواضيع “الفارغة” و”المبتذلة” من أجل إعادة تموضعه كمنبر لا بديل عنه؟ أم هي مشكلة أخلاقية بناءً على التحول في أولويات الاعلام ومجرد نسخة للمحتوى المنشور عن فضاءات بديلة أخرى من دون عناء البحث؟

شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية، خروج الاعلامية رابعة الزيات، بحلقة استثنائية “لكشف عصابة التيكتوكرز”، وإن بدت هذه الحلقة بمثابة مساعٍ لحفظ ماء الوجه بعدما تعرضت قناة “الجديد” التي تبث برنامج “فوق الـ18” الذي تقدمه الزيات نفسها، لسيل من الانتقادات إثر استضفاتها جورج م. فور تحول الملف إلى قضية رأي عام.

وفي الحلقة، حاورت الزيات، أحد أبرز المتهمين في هذه القضية، قبل أن تصدر بحقه مذكرة توقيف، وهو المدعو حسن س.، إضافة إلى جون م.، بحضور الصحافي الاستقصائي هادي الأمين، الذي توجه لضيفه قائلاً: “شو رح تطلع لتعترف؟ ناطرك تعترف؟”… ما يطرح إشكاليات عديدة حول دور الاعلام في القضايا الجرمية.

هذه العبارة على لسان الأمين، تغني عن شروحات كثيرة، على اعتبار أن دور الاعلام ليس التحقيق في القضايا وإنما إبرازها إلى العلن، ما معناه أن مَنح المتهم المنبر، ولو بهدف “إحراجه”، لن يأتي للمجتمع بأي فائدة ولن يلقن المتهم درساً يُذكر، ولن يمكن المجتمع من الاقتصاص منه.

ويأتي تعامل الاعلام مع المتهمين بهذا الشكل النافر، ليفضح تلكؤ الأجهزة الأمنية اللبنانية في مصارحة الجمهور من خلال عقد مؤتمر اعلامي أو على الأقل اطلاعه على مجريات التحقيق بما يُسمح به، ليتيح الإعلام لنفسه لعب هذا الدور. لكن ذلك يضيء أيضاً على أزمة غياب العلاقة التنسيقية بين الاعلام والدولة حين يتعلق الأمر بالمصلحة العامة ومعاقبة المجرمين.

وهذا لا يعني أن يتنازل الاعلام عن دوره في مساءلة الأجهزة الأمنية والقضائية، إذ اتسمت قضية البيدوفيليا في شمال فرنسا والمعروفة بـ”قضية أوترو” بدور اعلامي كبير من حيث تبيان الإعلام للثغرات في تعاطي الجهاز القضائي مع القضية. لكنها عادت وواجهت العام الماضي “تهمة الاستغلال الاعلامي” حين صورت المجرمين على أنهم ضحايا في وثائقي عرضه تلفزيون France 2.

نور صفي الدين- المدن

مقالات ذات صلة