حركة «التمهيد» بدأت ولكن … الشرق الأوسط يختزن دوما مفاجآت غير محسوبة!
فقدت الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة زَخمها المطلوب، بعدما تبدلت الظروف المحيطة بها، بدءاً من الشارع الإسرائيلي الذي لم يعد موحداً إزاء الجدوى من استمرار القتال ومطالبته بإعادة الأسرى الى عائلاتهم، وانتهاء بالمناخ الدولي المعارض لاجتياح رفح والساخط على حرب الإبادة والمجازر بحق الفلسطينيين المدنيين.
وهذا الواقع أظهَر بوضوح أنّ ظروف استمرار الحرب لم تعد متوفرة، ومن هنا كانت العملية العسكرية الموضعية والمركّزة على معبر رفح. صحيح أن استيلاء الجيش الإسرائيلي على آخر نقطة تواصل بين غزة والعالم الخارجي يمنح نتنياهو ورقة مهمة تعزّز موقفه التفاوضي، لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية يفضّل الإندفاع أكثر باتجاه الحرب لا التوقف هنا، لأسباب عدة أهمها:
– انه يريد تحقيق قناعته السياسية بدَفع الفلسطينيين خارج غزة وهو ما لا يمكن تحقيقه سوى بالنار والمجازر، بهدف القضاء على أي إمكانية للذهاب الى حل الدولتين، الذي تضغط واشنطن باتجاهه.
– يريد أن يستهلك وقت الحرب كامل الفترة الانتخابية الأميركية ما سيحرم جو بايدن من أي استثمار لنتائج الحرب في حملته الإنتخابية الصعبة والمحشورة جداً، وبالتالي السعي لإسقاطه.
– في المقابل يدرك نتنياهو جيداً أن إعلان انتهاء الحرب الآن سينعكس سلباً عليه، لا سيما أن التحسن الذي طرأ على شعبيّته لم يصل بعد الى المربّع الآمن الذي يسمح بعودته الى السلطة وإنقاذه من المحاكمة والسجن.
ولذلك يجد نتنياهو نفسه محشوراً بين حربٍ فقدت زخمها وصار من الصعب عليه الاستمرار فيها، وبين الذهاب الى تسوية سياسية ستعني حُكماً انتقال الحرب من الميدان الى الساحات السياسية الداخلية وفتح ملفات المحاسبة القضائية حيال كارثة «طوفان الأقصى».
ولكن الوقت ليس مفتوحاً أمامه، فهو مضطر لاتخاذ القرار المطلوب، عبر المفاضلة بين الخيارات المتاحة وأهون الشرور.
أضف الى ذلك ارتفاع أصوات سكان المستوطنات الشمالية النازحين عن بيوتهم، والذين يطالبون بحسم أوضاعهم وتأمين عودتهم «الآمنة» قبل بدء العام الدراسي مطلع شهر أيلول المقبل.
ولا يملك نتنياهو ولا باقي أحزاب حكومته الكثير من ترف المناورة، لا سيما أنّ أعداد هؤلاء تتجاوز السبعين ألفاً، وهو عدد مؤثر في الانتخابات خصوصاً أن غالبيتهم من أنصار أحزاب اليمين.
وخلال زيارته الأخيرة الى إسرائيل، إقتصرت لقاءات كبير مستشاري الرئيس الأميركي آموس هوكستين على وزير الدفاع ورئيس الأركان. كان واضحاً أنه يعمل على استمزاج رأي الفريق العسكري داخل مراكز صنع القرار الإسرائيلي، وأيضاً على الوقوف فعلياً على التفاصيل التقنية والعسكرية لليوم التالي للجبهة مع لبنان.
فالمفاوض الأميركي بقي على تواصل غير مُعلن مع الرئيس نبيه بري طوال مراحل اشتعال الجبهات، وكان يعمل على تحضير كافة النقاط المطلوبة والتي ستشكّل اتفاقية ما بعد وقف إطلاق النار. بحيث أنه ما إن يجري الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة، فإنه سيَستتبعه وقف لإطلاق النار في لبنان وإعلان الاتفاق الذي جرى تجهيزه مسبقاً.
ويُحكى في الأروقة السياسية اللبنانية أنّ «حزب الله» لم يكن مرتاحاً للأوراق الفرنسية المتعلقة بجنوب لبنان، وهو ما أبلغه الى الرئيس بري بعدما سلّمه ملاحظاته على الورقة الأخيرة. وهذا بخلاف التواصل الحاصل بين بري وهوكستين والذي بَدا «أكثر واقعية» في طريقة مقاربته للأمور. مع الإشارة الى أنّ هوكستين يزور باريس للمرة الثانية خلال أسبوعين حيث يلتقي مسؤولين ومن بينهم لودريان. وكان لافتاً جداً ما تردّد عن أن «حزب الله» أعدّ «خطة العودة» لأبناء القرى الحدودية والذين دمّرت منازلهم، بحيث أنه ما إن يجري الاعلان عن وقف النار حتى يدعو «حزب الله» الناس لِتفقّد منازلهم فوراً، ومن ثم سيعمل على منح مساعدات مالية فورية تسمح بالمباشرة بإعادة الإعمار على أن تستكمل المبالغ المطلوبة من خلال دول مانحة (أغلب الظن قطر)، ولكن ليس مباشرة مع «حزب الله» بل عبر الدولة اللبنانية.
والى جانب هذه الإشارات الداخلية الواعدة هنالك المؤشرات الإقليمية المعبّرة لناحية تراجع الحماوة في بحر الخليج، إضافة الى التصورات الجاري وضعها حول مؤتمر دولي بعد انتهاء حرب غزة لإعادة ترتيب الشرق الأوسط وتشكيله، أو بتعبير أدقّ لإعادة رسم خارطة النفوذ السياسي فيه.
وبعد أيام ستعقد قمة الدول العربية في البحرين. ومقررات هذه القمة ستكون مؤشراً واضحاً حيال المسار المستقبلي، وسيكون للبنان حصّة وازنة منها، مع الإشارة الى الشروع أكثر في احتضان الرئيس السوري الذي سيكون مشاركاً في أعمال القمة.
لكن نقطة الانطلاق تبقى مع إعلان وقف الأعمال الحربية في غزة. وتبدو الإدارة الأميركية مصرّة على إقفال ملف الحرب خلال الأسابيع المقبلة، وقبل حلول فصل الصيف حيث ستشتد الحملات الإنتخابية، وستتراجع الحركة الديبلوماسية الى أدنى مستوياتها بسبب شهر الإجازات السنوية. وأيضاً هنالك قرار التجديد لقوات الطوارىء الدولية العاملة في جنوب لبنان نهاية شهر آب المقبل.
وفق هذه الحسابات الضاغطة، انطلقت الحركة الأميركية بالتفاهم والتعاون مع فرنسا من خلال جان إيف لودريان من أجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني خلال الشهرين المقبلين كحد أقصى.
والسفيرة الأميركية التي ستتولى دور رأس الحربة للجنة الخماسية ستعمد الى رسم صيغة جديدة لتحرّك الخماسية. مع الإشارة هنا الى أنّ التباينات ما بين أعضاء الخماسية، وتحديداً بين فرنسا وقطر، لم تعد موجودة، بل هناك أجواء بأنّ «اللغة» أصبحت موحدة بين جميع الأطراف.
وفي دلالة إضافية على وجود حركة جدية حيال الملف الرئاسي، تلك الدعوات التي وجّهتها قطر لشخصيات لبنانية ستُقابِل رئيس الحكومة القطرية. وجاءت باكورة هذه الدعوات الى قائد الجيش، المطروح اسمه كمرشح رئاسي جدي. صحيح أن الدعوة جاءت تحت عنوان ملف استكمال مساعدة الجيش لكن التوقيت وبرنامح اللقاءات يحملان الكثير من التمعّن.
في الواقع، إنّ ضجيج أصوات القذائف والصواريخ كان يحجب عنّا الكثير من الكلام الذي كان يدور في الكواليس، والذي كان يتطرق الى الملامح المستقبلية للمشهد في الشرق الأوسط ولبنان على السواء.
ولكن علينا أن نتذكر دائماً ما علّمنا إيّاه التاريخ بأنّ الشرق الأوسط هو الساحة التي تختزن مفاجآت غير محسوبة، ما يَستوجِب التروي والتمهّل والتحسّب، فكل شيء قابل لأن ينقلب فجأة من الأبيض الى الأسود والعكس صحيح.
جوني منيّر-الجمهورية