لبنان بعد رفح ميدان عمليات واسعة: “حماس” في مأزق و”الحزب” أمام معركة وجوديّة؟
تكشف العملية الإسرائيلية في رفح أن حكومة بنيامين نتنياهو ماضية في تنفيذ مخططها، ليس لضرب حركة حماس وشل قدراتها العسكرية، بل لإنهاء كل أشكال الحياة في القطاع. بات هدف نتنياهو واضحاً ويتمثل في إطالة أمد الحرب، إذ يبدو أن التصعيد هو السبيل الوحيد لاستمراره في رئاسة الحكومة وفرض أمر واقع حتى لو انتقلت الحرب إلى لبنان.
وعلى الرغم من الخلافات الإسرائيلية الداخلية حول خطط الحرب وقضية “المختطفين” لدى حركة حماس والجهاد الإسلامي، والخلاف مع الإدارة الأميركية، فإن تحالف نتنياهو مع اليمين المتطرف يسعى لاستمرار الحرب، ولذلك استخدم كل الوسائل في الرد على وقف تحويل شحنة السلاح والذخائر الأميركية إلى تل أبيب، معلناً عدم رضوخه للضغوط، ومستنداً إلى التحرك الذي تقوم به منظمات يهودية أميركية شنت سلسلة من الهجمات على الرئيس الأميركي جو بايدن بسبب قراره، وحذرت من أن هذه الخطوة “ستشجع الأعداء المشتركين مثل إيران وحزب الله وحماس”.
تتزامن العملية العسكرية في رفح مع تصعيد ناري وغارات تدميرية على جبهة جنوب لبنان، وهو ما يؤكد أن المخطط الإسرائيلي يسعى لإبقاء منطقة الحدود اللبنانية – الإسرائيلية ملتهبة لمنع العودة إلى ما قبل 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور على جبهة غزة. لكن التعجيل الإسرائيلي في فتح معركة رفح رغم الاعتراض الأميركي، يؤكد أن حكومة نتنياهو تعطي الأولوية الآن لغزة، وهدفها تحقيق شيء ملموس يعزز شروطها في أي تفاوض مقبل يؤدي إلى وقف إطلاق النار، خصوصاً أن الدخول لاحتلال معبر رفح والتركيز على شرقها جاء بعد موافقة حركة حماس على اقتراح الهدنة الذي قدمته قطر ومصر بموافقة أميركية.
الحكومة الإسرائيلية ليست في وارد القبول باتفاق الهدنة من الأساس، فعملية رفح كانت مقررة باتفاق أو من دونه، ذلك أن إسرائيل تريد توفير كل ما يعزز استمرار الحرب، ولذلك يرفض نتنياهو الاحتكام إلى الأصوات التي تدعو إلى وقف إطلاق النار والانخراط في صفقة تؤدي إلى الهدنة وإنهاء الحرب. المهم بالنسبة لنتنياهو تحقيق إنجاز على الأرض حتى لو أدت العملية إلى مقتل كل المختطفين الإسرائيليين، وهو نجح حتى الآن في إطاحة كل المبادرات الدولية للتوصل إلى هدنة ولم يكترث للضغوط الأميركية التي يراهن على تراجعها من خلال تكريس أمر واقع عسكري في رفح عبر تقسيمها، ما يؤدي إلى إنهاء مقاومة حماس.
يراهن نتنياهو أيضاً على تراجع الضغوط الأميركية وإعادة تزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح والذخائر. ووفق ما تنقله تقارير دولية أن رئيس الحكومة الإسرائيلية يحاول إقناع الأميركيين بأن معركة رفح هي الأخيرة التي ستقضي على حماس، معتبراً أن جيش الاحتلال دمّر كل قواعدها وأنهى نخبتها المقاتلة في الشمال والوسط، وقطع كل خطوط التواصل بين الشمال والجنوب. وفي إشارة لإمكان التراجع الأميركي أو أقله عدم ممارسة ضغوط أكبر ضد نتنياهو، أن وزارة الخارجية الأميركية رغم انتقادها بشدة الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة، في تقريرها إلى الكونغرس، فإنها لم تتهم إسرائيل بإساءة استخدام السلاح الأميركي في الحرب على غزة، إذ نقل موقع “إكسيوس” أنه تم وقف تسليم شحنة واحدة فقط، بينما الشحنات الأخرى لا تزال تصل إلى تل أبيب.
الثابت حتى الآن أن الإدارة الأميركية لم تمارس ضغوطاً كافية لمنع نتنياهو وفريقه من مواصلة الحرب على غزة وإطالة أمدها. الأميركيون نجحوا على مسار واحد يتعلق بالمواجهة الإيرانية – الإسرائيلية، فمنعوا أي تصعيد بعد الهجمات المتبادلة الأخيرة، ولم يسمحوا لنتنياهو في جرهم إلى حرب إقليمية، وذلك عبر ممارسة ضغوط عليه، فيما بقيت آلة الحرب الإسرائيلية تدمر غزة. والواقع أن الأميركيين لم يحسموا خياراتهم في الملف الفلسطيني أو أقله أنه ليس لديهم حل أو تصور نهائي لإنهاء الصراع عبر قيام دولة فلسطينية تريدها واشنطن في الشكل ولا تمارس سيادتها على الأراضي والحدود. لكن اللافت في هذا الأمر أن واشنطن لم يعد في إمكانها الخروج عما قررته من دعم لإسرائيل منذ عملية “طوفان الأقصى” وحتى اليوم، وهو دعم مرتبط بوجود الاحتلال، لذا هي تقف اليوم عاجزة عن ممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل لمنعها من مواصلة الحرب، وذلك على الرغم من أنها تمكنت من وضع سقوف في حربها على لبنان منعت توسعها حتى الآن.
الوجه الآخر لاستمرار الدعم الأميركي لإسرائيل يتعلق بحركة حماس. واشنطن غطت الحرب على قطاع غزة إلى أن وصلت لمرحلة لم تعد الإدارة الأميركية قادرة على التغاضي عن التدمير والجرائم الإسرائيلية، إضافة إلى التغير في الموقف الدولي بعد تهجير غالبية سكان غزة وتجويعهم. وعلى الرغم من القتال الذي خاضته حماس، إلا أنها لم تتمكن من تغيير نظرة المجتمع الدولي إلى معركتها، وهي بدأت بالانعطاف متأخرة عند إعلان نائب رئيس مكتبها السياسي خليل الحية الموافقة على مقترح الدولة الفلسطينية وانفتاحها على الفصائل الفلسطينية، لكنها لم تتخذ خطوات تؤكد خياراتها الجديدة، وذلك على الرغم من موافقتها على مقترح الهدنة المعدل في غزة. والواقع أن إسرائيل بدأت تستغل ما أحدثته من تدمير وإنهاء أشكال الحياة في غزة، فعجلت في معركة رفح لفرض أمر واقع عسكري وتقسيمها لتشتيت الشعب الفلسطيني.
في ظل هذا الواقع تبرز مخاوف حقيقية من نقل حرب رفح إلى جنوب لبنان، خصوصاً إذا تمكن نتنياهو من إسقاط كل مقترحات الهدنة ووقف النار. فالعمليات والمواجهات بين إسرائيل و”حزب الله” متواصلة على جبهة الجنوب اللبناني وتتكثف بالتزامن مع حرب غزة، فيما الوساطات الدولية، لا سيما الأميركية، توقفت، إضافة إلى ترنح الورقة الفرنسية لتثبيت التهدئة وإطلاق التفاوض لتنفيذ القرار 1701، وذلك بعد الرد اللبناني الذي لم يوافق على كل ما ورد من مندرجات في بنودها. وحتى الآن، يظهر من خلال التهديدات الإسرائيلية أن الحرب واقعة على لبنان، وهدفها تغيير المعادلات فيما “حزب الله” مستمر في عملياته تحت عنوان “مساندة غزة”، وذلك بالرغم من أن ساحة الجنوب اللبناني باتت جبهة قائمة بذاتها.
أمام هذه التطورات، يبدو أن غزة وجنوب لبنان دخلا في مرحلة جديدة، فيما يبقى السؤال الأساسي: هل تسمح الإدارة الأميركية بشن حرب على لبنان، وإن بأهداف محددة؟ أم أنها ستضغط مجدداً لفرض هدنة في غزة تنسجب على لبنان وتفتح طريق التفاوض على الجبهتين؟ ذلك مرتبط بما ستقرره واشنطن قبل أن تبدأ فعلياً حملات الانتخابات الرئاسية. لكن الحرب باتت أمراً يومياً في جنوب لبنان، حيث بات واضحاً أن إسرائيل لن تقبل بالعودة إلى ما قبل “طوفان الأقصى” فيما الأجواء الدولية أكثر ميلاً إلى ضرورة حدوث تغيير يؤدي إلى تطبيق القرار 1701. ويواجه لبنان في هذا الصدد استحقاقات عدة في المرحلة المقبلة، ومنها التجديد للقوات الدولية العاملة في الجنوب (اليونيفيل) في آب (أغسطس) المقبل، ما يعني أن استمرار الجبهة مفتوحة سيؤثر على الوجهة الدولية في التعامل مع بقاء هذه القوات، خصوصاً أن دورها رئيسي في تطبيق القرار االدولي.
وما لم تتمكن الوساطات من فتح نافذة لتثبيت التهدئة وإطلاق التفاوض، فستتحول جبهة جنوب لبنان إلى ميدان عمليات واسعة. وإذا استمر الوضع لفترة طويلة، خصوصاً مع اجتياح إسرائيل رفح، سيكون لبنان أمام حالة خطيرة، وأكثر الساحات استنزافاُ مع غزة.
ابراهيم حيدر- النهار العربي