تجاوز الانقسام في”اليوم التالي” في لبنان: لا تسوية إلا إذا تساوى اللبنانيون في المصيبة والهزيمة
تتكاثر الأسئلة حول “اليوم التالي” للحرب على غزة. حتماً لا يمتلك الإسرائيليون أي جواب أو خطة مقنعة، ومرضية للأميركيين بالحدّ الأدنى حتى الآن. لكن السؤال نفسه يجوز طرحه على لبنان أيضاً، أو على المنطقة ومستقبلها ككل. إذ لا يمكن لهذا الصراع المفتوح أن يُغلق إلا على تغيير كبير في وضعية المنطقة وواقعها، ولبنان ضمناً.
الأمن القومي والانقسام
عملياً، أعادت عملية طوفان الأقصى إحياء القضية الفلسطينية ووضعها بنداً أولاً على جدول أعمال العالم. في المقابل، تريد إسرائيل أن تستغل حربها والدعم الدولي الممنوح لها للقضاء على القضية الفلسطينية، وعلى حلم الدولة المستقلة. فهي تستكمل مشروع التهجير. ويطال مشروعها ضرب الأمن القومي لمصر وضرب الأردن أيضاً، من خلال عملية تهجير الفلسطينيين المقترحة باتجاه سيناء وباتجاه المملكة الأردنية.
وفي موازاة الحرب الشنيعة على غزة، يستمر الانقسام الفلسطيني، على الرغم من كل محاولات إنجاز مصالحات أو ترتيبات أو تفاهمات.
في لبنان، أراد حزب الله من خلال فتحه لجبهة المساندة مع غزة، أن يكرس منطق وحدة الساحات، ووحدة الوجهة الإقليمية بالنسبة إلى الحلف الإيراني. ولكنه في المقابل، يقول إنه فتح حرباً استباقية من شأنها أن تعيد إحياء القضية اللبنانية، وتستدعي اهتمام المجتمع الدولي، الذي لا يبدو مهتماً إلا من البوابة الإسرائيلية.
ويحصل ذلك أيضاً، على وقع انقسام لبناني كبير قابل لأن يتعزز في المرحلة المقبلة، إذا ما تطورت جبهة المشاغلة إلى حرب واسعة، أو في حال ترتيب اتفاق ديبلوماسي، يتم بعده توجيه اتهامات للحزب بأنه يختزل القرار اللبناني بنفسه وبحركة أمل، ويحل مكان كل مؤسسات الدولة. ما سيؤسس للمزيد من الانقسام.
في غزة
بالنسبة إلى اليوم التالي في غزة، فلا صيغة واضحة بعد، باستثناء التورط الأميركي المستمر، منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، والدعم المطلق لإسرائيل، لاستعادة وتعزيز أمنها واستقرارها.. وصولاً إلى بناء الميناء العائم، والذي سيستدعي بقاء الجنود الأميركيين في المنطقة لحماية الميناء، وإن كان من دون النزول على الأرض.
بغض النظر عن الأسباب الاستراتيجية للوجود الأميركي المتجدد في البحر المتوسط، إلا أن ما يرتبط باليوم التالي، قد يكون من خلال إعادة إنتاج وتجديد تفاهم أميركي مع الدول العربية ومع إسرائيل، لوضع آلية لإدارة قطاع غزة لاحقاً. وقد يستخدم ذلك في سبيل نسج تفاهمات تتصل بالوضع في المنطقة ككل، لا سيما في ظل ما يحكى عن اتفاقات سلام أو تطبيع أو عقد تحالفات، في مقابل تمسك العرب بـ”حل الدولتين” من دون تصور واضح لكيفية بناء الدولة الفلسطينية، وعلى أي جغرافيا، في ظل سياسة التهجير والاستيطان التي يعتمدها الإسرائيليون، وتقليص الأراضي التي يسيطر عليها الفلسطينيون.
في لبنان
ماذا عن اليوم التالي لبنانياً؟ لا يزال لبنان يعيش على إيقاع حرب غزة، يترقب لما سيكون عليه وضع الجبهة لاحقاً، وإذا كان مصيرها الاتساع والتصعيد، ام الوصول إلى حلّ ديبلوماسي. تتضارب وجهات النظر في هذا المجال، بين من يستبعد الحرب ومن ينظر إليها بأنها واقعة ولا مفرّ منها بمعزل عن التوقيت. في هذا السياق، لا تزال كل المساعي الديبلوماسية متعثرة، لا سيما بعد الرد اللبناني الرافض ضمناً للورقة الفرنسية، وفي ظل انتظار تفعيل مبادرة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين بعد انتهاء الحرب في غزة.
وعملياً، لا خطة لبنانية لليوم التالي، في ضوء الانقسام القائم والقابل للاستمرار. فمعارضو حزب الله يعتبرون أنه يحصر المفاوضات بنفسه ومصالحه، ويسعى إلى استثمارها في السياسة الداخلية. الأمر الذي ينفيه الحزب كلياً، لكنه يتمسك بشروط من قبيل انتخاب رئيس “لا يطعن في الظهر”.
والمعارضون سيتمسكون بمواقفهم الرافضة، والتي عبّر عنها سمير جعجع مثلاً، بالقول: “إذا أراد المجتمع الدولي أن يمنح حزب الله مكاسب فليمنحه من حسابه وليس على حساب اللبنانيين”. أما رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، فقد كان واضحاً عندما قال: “لا يظن أحد أن تطورات الوضع في المنطقة أو الحرب في الجنوب يمكنها أن تفرض على اللبنانيين والمسيحيين خيارات لا يريدونها”.
مواقف كثيرة مشابهة تتكرر، وهي يمكن أن تعمّق الانقسام في المرحلة اللاحقة. خصوصاً في ظل أجواء تضج بها الكواليس السياسية لدى جهات معارضة، بأنه لا يمكن القبول أو التسليم بأي انتصار سياسي يمكن أن يحققه حزب الله ويترجمه في رئاسة الجمهورية. وهناك من يذهب أبعد من ذلك، بالقول إنه في حال نجح الحزب بتحقيق ما يريد، فلن يكون لديهم خيار سوى الانفصال عن الدولة المركزية.
لا غلبة ولا غبن
أمام هذا الواقع الانشطاري، يستمر الاعتراض على تغييب حزب الله للدولة ولمكونات مختلفة عن المشاركة في المفاوضات مع الجهات الخارجية. هنا يعتبر بعض المعارضين أنه لا يمكن إنتاج تسوية سياسية جدية وطنية ومتوازنة في لبنان، إلا إذا تساوى اللبنانيون في المصيبة والهزيمة. حينها يمكن للحوار أن يحصل على أساس أنه ليس للجماعات اللبنانية سوى هذا البلد الصغير، ومبدأ العيش معاً، من دون لا غلبة ولا غبن.
كل المؤشرات تفيد بأن هناك اتجاهاً للمزيد من الانقسام. علماً أن كل محاولات تجاوزه بتسويات أو بمواجهات حصلت سابقاً، لم تسهم في إلغاء مسبباته، بل عمّقتها. وخير دليل على ذلك، الطروحات والتجارب التي بادرت إليها جهات عديدة، بما فيها، تيار المستقبل، أو الحزب التقدمي الإشتراكي، أو التيار الوطني الحرّ أو حتى القوات اللبنانية. فيما لا يبدو من الممكن تطبيق الطائف، أو تعديله، أو تجاوزه إلى اتفاق جديد، بغياب التساوي والتعادل بين المكونات.
وهنا يشير بعض معارضي الحزب إلى ضرورة اقتدائه بالسياسة الإيرانية الراهنة، والتي تعطي مثالاً على التعامل الواقعي مع المعطيات الإقليمية والدولية، مثل محاولة الإنحناء أمام العاصفة أو تجنبها، والحرص على الدولة الإيرانية ومصالحها، والحرص على عدم الإنجرار إلى حرب لا قدرة على خوضها، ولتجنب خسائرها، إلى جانب محاولة إرساء تفاهمات مع المحيط، إن مع الخليج العربي أو تركيا، أو الغرب، وتحديداً الخصم الأكبر، أي أميركا. وهذا درس في السياسة يمكن للمقربين من إيران اعتماده، في سبيل إنقاذ ما تبقى، خصوصاً أن حماية الجنوب أو إعادة إنقاذه ككل مرة في تاريخ لبنان، هو البوابة لإنقاذ البلد. وهذا يتطلب “سياسة جديدة” في الداخل اللبناني، مبنية على التكافل والتضامن والتفاهم مع كل القوى الأخرى من دون ممارسة الاستعلاء عليها أو اتهامها بالعمالة.
منير الربيع- المدن