لا أفراح في جنوب لبنان حتى إشعار آخر

سببت الحرب الدائرة على حدود جنوب لبنان منذ نحو سبعة أشهر متتالية، تضاف إليها الأزمة الاقتصادية والمالية المستمرة والمتراكمة منذ أربعة أعوام، انهيار مختلف القطاعات التجارية والزراعية والصناعية وكذلك البنية الاجتماعية

كيفما أصغيت جنوب لبنان لا تسمع غير الشكوى، إذ سببت الحرب الدائرة على الحدود منذ نحو سبعة أشهر متتالية، تضاف إليها الأزمة الاقتصادية والمالية المستمرة والمتراكمة منذ أربعة أعوام، انهيار مختلف القطاعات التجارية والزراعية والصناعية وكذلك البنية الاجتماعية، ومنها المناسبات التي تتوزع بين أعراس ومهرجانات ونشاطات ثقافية وفنية وحتى سياسية.

وإذا ما استثنينا عاصمة الجنوب، مدينة صيدا التي يسجل فيها كذلك تراجع ملحوظ للنشاطات السياحية والاجتماعية والثقافية يصل إلى حدود 50 في المئة أو أدنى، فتوقفت بنحو 90 في المئة في أكبر مدن الجنوب، تحديداً في مدينتي صور والنبطية اللتين تعتبران خارج الحرب المباشرة. أما مدن مرجعيون والخيام وبنت جبيل، فالحياة فيها ربما تقتصر على قلة قليلة صامدة في مقابل نزوح يتعدى 95 في المئة من السكان في معظمها، ومن الطبيعي أن تنعدم فيها أي مناسبة تذكر.

النشاطات دون 10 في المئة

تعد مدينة النبطية من أكثر المدن اللبنانية نشاطاً في إقامة الاحتفالات والندوات الثقافية والفنية والاجتماعية والسياسية، ناهيك عن الأفراح والأعراس التي كانت تتوزع على أكثر من 10 صالات ومنتجعات ضخمة، انحسر حيز كبير من نشاطها خلال أزمة كورونا بل توقف، ثم تدنى بعد الانهيار الاقتصادي والمالي، وصولاً إلى الحرب، فانكفأت فيها النشاطات والاحتفالات إلى ما دون 10 في المئة عما كانت عليه قبل الحرب، بينما لم يسجل أي عرس لافت منذ اندلاعها في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

نشاطان لافتان جريا في مدينة النبطية خلال سبعة أشهر، بالتعاون مع هيئات ثقافية وتجارية، أحدهما مهرجان للشعر والرسم في المركز الثقافي التابع للبلدية بحضور جمهور ضئيل خيمت عليه أجواء الحذر والقلق، والآخر تمثل في إطلاق شهر للتسوق خلال شهر رمضان الماضي، لكن المشاركة الشعبية فيه كانت متدنية جداً مقارنة بنشاطات مماثلة في أعوام سابقة.

استعاضة بتقديم مساعدات

تقول رئيسة جمعية “تقدم المرأة” في النبطية زهرة صادق “أوقفنا جميع نشاطاتنا الثقافية والفنية منذ السابع من أكتوبر الماضي، كان آخرها في هذا اليوم بالتحديد (7 أكتوبر) مهرجان الأغنية السياسية. صحيح لم نكن نتوقع استمرار الحرب طوال أشهر عدة وصلت إلى حدود سبعة، لكن شعرنا بأن ثمة مسؤولية كبيرة ستقع على عاتقنا إذا ما جمعنا الناس في نشاط ما ووقعت حولنا أية حادثة أمنية، وهذا متوقع في أي لحظة، خصوصاً أن النبطية لم تسلم من الحرب وتعرضت مرتين لاستهداف مباشر بالقصف والغارات، مما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين”.

وتشير صادق إلى أن “حيزاً من نشاطنا ذهب باتجاه تقديم مساعدات إنسانية مالية وعينية إلى مئات المواطنين والنساء والأطفال ممن يعانون أوضاعاً اقتصادية واجتماعية وصحية صعبة أو متدهورة، وهذا المشروع بدأنا به ليس منذ اندلاع الحرب فحسب، بل منذ الانهيار الاقتصادي، ويتم ذلك بمساعدة جمعيات لبنانية أخرى من مناطق عدة ومساهمين، لكن كل ذلك يجري بعيداً من تجميع الناس في مركزنا لأنه مشوب بالخطر، بل يتحقق بإيصال هذه المساعدات إلى مستحقيها في البيوت أو التكفل بدفع فواتير صحية في المستشفيات أو الصيدليات”.

إلى “تقدم المرأة” التي تنضوي في عضويتها أكثر من 150 سيدة وصبية من النبطية والجوار، يتجاوز عدد الجمعيات الفاعلة في المدينة 20 جمعية ونادياً، تضيف صادق أنها “كانت تتقاسم النشاطات أو تتشارك فيها في كل أسبوع وكل شهر ولها جمهور واسع، لكن البال لم يعد مرتاحاً لإقامة أي نشاط”.

المنتجعات الحزينة

نذهب إلى المنتجعات السياحية المنتشرة في مختلف مدن الجنوب ومناطقه، فنجد أنها أقفلت أبوابها تماماً في مناطق مرجعيون وحاصبيا منذ أشهر، بينما يعاني أصحابها في صور والنبطية وما بينهما ركوداً حاداً، منتظرين المناسبات والأعياد والأفراح لعلها تحمل إليهم زبائن ورواداً يحركون الدورة الاقتصادية ويحدون من الخسائر “التشغيلية” المستمرة.

يقع أحد المنتجعات بين النبطية وصيدا، أي في الوسط بعيداً نوعاً ما من مناطق المواجهات المباشرة، ومع ذلك ينتظر صاحباه في الاستثمار حسن حطيط وحسن علوية “أن تحل مناسبة تخفف من وطأة الخسائر المستمرة منذ سبعة أشهر”، ويقول حطيط “تراجعت نسبة الحجوزات لمناسبات الزفاف والخطوبة وغيرها من الاحتفالات إلى ما دون 70 في المئة مقارنة بالأشهر التسعة التي سبقت الحرب في العام الماضي، وربما الإقفال التام لمتنزهات المنطقة الحدودية، لا سيما بين حاصبيا ومرجعيون، هو الذي ترك لنا هامشاً من التشغيل الحزين، وعلى نكبتنا جميعاً حتى في صور والنبطية، تحركت مطاعم واستراحات صيدا التي تعتبر حتى اليوم خارج العدوان والحرب تماماً، ويقصدها الزبائن من بيروت ومناطق أخرى ويجدون فيها متنفساً يعوض المغامرة نحو عمق الجنوب”.

الحديث عن انكفاء حركة المطاعم والمنتجعات يشير إلى أن نشاطها يكاد يقتصر على رواد المطاعم فيها “أي لتناول الطعام فقط، في ظل تراجع شبه تام لاحتفالات الزفاف والأعراس، ومن كان يأتي إلينا سابقاً وجلهم من المغتربين المقتدرين مادياً، لن يأتوا اليوم إلى منطقة شبه مشتعلة، بل راحوا يقيمون أفراحهم وأعراسهم شمالاً، بعد صيدا وأقرب إلى بيروت. وما بقي لنا، هذا إن بقي، فأضحى يقتصر على حضور خجول، أو على قلة قليلة ربما لا تتجاوز 40 أو 50 مدعواً وإلى حفل عشاء فقط، بلا زفة عرس أو موسيقى تصدح ولفترة قصيرة تراوح ما بين ساعة أو ساعتين”، يؤكد حطيط ويشير إلى أن أبناء الجنوب غير المغتربين “باتوا يعملون على قاعدة خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود، والأيام السوداء تتراكم منذ أربعة أعوام، وصولاً إلى حرب لم تكُن في الحسبان”.

يقول شريكه حسن علوية “تأتينا بين الحين والآخر حجوزات لمناسبات خطبة أو أفراح زفاف، لكنها حجوزات مقترنة بعبارة ’غير مؤكدة‘ أو ’غير محسومة‘، مما يعني أنها حجوزات غير ثابتة ترتهن إلى ما سيستجد أمنياً. ويشكل عامل سقوط ضحايا في المناطق الجنوبية أكثر الأسباب في تراجع الحجوزات وإقامة الاحتفالات والأعراس، فالناس في الجنوب تراعي شعور بعضها بعضاً، إذ كيف يمكنك أن تقيم فرحاً وغيرك يشيّع ضحية سقطت بالقصف أو الغارات؟. يمكن الجزم أنه منذ نحو ستة أشهر لا تصدح الأعراس في منتجعات الجنوب ومطاعمه، وغالبية الناس تستعيض عنها بحفل عشاء متواضع يقتصر على أقرب المقربين أو الأصدقاء، وأحياناً لا يتجاوز عديدهم 20 شخصاً”.

حرب استنزاف

كان مجموع المدعوين إلى الأفراح يتجاوز 200 شخص، أما اليوم، بحسب حطيط “فالرقم القياسي إذا وصل عدد المدعوين إلى 50 و60 أو 70 شخصاً” ويضيف أنه “قبل الأزمات التي حصلت، ونحكي منذ عام 2019، كانت كلف 100 مدعو إلى عرس أو زفاف بين 5 آلاف دولار و8 آلاف، وبعد الأزمة الاقتصادية هبطت الكلف إلى نحو ألفي دولار، لكن في العام الماضي عادت الأسعار وتحركت صعوداً فقاربت 3 آلاف دولار لمئة مدعو، وصرنا نتوقع أن تعود الأمور لمجرياتها السابقة، خصوصاً في الأشهر التي سبقت الحرب التي لم تكُن تراود أحداً، ومع ذلك قلنا ’مجرد أيام وتنتهي‘، لم نكُن نتخيل أنها ستكون طويلة الأمد إلى هذا الحد، ولو سألت المتضررين منها لأجابوا ليتها كانت حرباً مباشرة، وعندها تعرف أنك في حرب وتقفل أبوابك ريثما تنتهي، لا أن تستنزفك كما يحصل معنا اليوم، فلا نستطيع أن نقفل، وإن فتحنا فثمة كلف تشغيلية تكوينا بنارها وتسبب لنا خسائر مستمرة”.

المغتربون خزانة الدولة

كانت مطاعم الجنوب تستقبل مؤتمرات ثقافية وطبية واقتصادية روادها من مختلف المناطق اللبنانية، وكان ثمة حضور لافت إلى مطاعم الجنوب من بيروت ومن الشمال ومن الجبل. هنا يؤكد علوية أن “الأوضاع المتردية بدأت قبل الحرب بشهرين، مع اندلاع الاشتباكات في مخيم عين الحلوة قرب صيدا والتي كانت تقطع الجنوب عن صيدا وعن بقية المناطق اللبنانية، ثم أتت الحرب في أعقابها مباشرة، فمن كانوا يأتون من خارج المنطقة لم يعودوا مضطرين إلى المغامرة والمجيء إلى مناطق الجنوب وهم يسمعون يومياً أن الحرب لم تتوقف، وهم معذورون في ذلك، فحتى المقيمين جنوباً باتوا لا يتنقلون بين منطقة وأخرى وأنا واحد منهم”، لكن والكلام لعلوية “مصالحنا تعطلت بل أصابها الخراب، خصوصاً بعد انقطاع المغتربين الذين كان لهم حضور لافت قبل اندلاع الحرب. نحن نجزم أن اقتصادنا يقوم بمعظمه على المغتربين، زائرين كانوا أو أصحاب أعراس وحفلات زفاف وسهرات بعد هذا الانهيار الاقتصادي الكبير، والمغتربون هم اليوم خزانة الدولة ومشغلو القطاعات المختلفة، وإن لم يأتوا هذا العام، فنحن ذاهبون إلى انهيار تام”.

في منطقة المواجهات

في مرجعيون ومحيطها الأقرب إلى منطقة المواجهات العسكرية اليومية أقفلت جميع المؤسسات السياحية هناك، يقول إلياس اللقيس صاحب متنزه سياحي في إبل السقي جارة مرجعيون والخيام “منطقتنا في قلب الحرب، وتتعرض يومياً للقصف المدفعي وغارات الطائرات الحربية، طبعاً نكون مجانين إذا ما فتحنا أبوابنا، ولمن؟ كنت سابقاً، وفي مثل هذه الأيام من السنة الماضية أتلقى طلبات الحجوزات للأعراس والمناسبات المختلفة، أخيراً تلقيت اتصال حجز لزفاف متوقع في الـ27 من يوليو (تموز) المقبل، شرط أن تكون الحرب قد توقفت، ولحينه من يعلم؟، لذلك وتفادياً لأي خسائر تشغيلية، أقفلنا أبواب منتجعنا منذ اليوم الأول للمعارك”.

ويشير اللقيس إلى أن “متنزهات ومطاعم حاصبيا البعيدة من هنا (إبل السقي) نحو خمسة كيلومترات شمالاً، ليست أفضل حالاً، حتى لو كانت مدينة حاصبيا مركز القضاء بعيدة من القصف والغارات، فجوارها في قلب الحرب، وإن فتحت المتنزهات هناك أبوابها، فبانتظار زبون من المنطقة وليس من خارجها، هذا إن أتى، وطبعاً هم يتحملون أعباء تشغيلية جسيمة ستدفعهم إلى الإقفال إذا ما استمرت الحرب إلى مطلع الصيف”.

ضربة قاسية للجميع

وفي واحدة من كبرى شركات الأدوات الكهربائية بين صيدا والنبطية، والتي تجهز المنازل بما يلزمها من كهربائيات، يقول خليل جواد الذي يدير الشركة إلى جانب والده إبراهيم جواد “ارتباطاً بالأوضاع الأمنية، تراجعت المبيعات منذ بداية الحرب إلى أقل من 80 في المئة، حتى لو كنا بعيدين من المناطق الساخنة أكثر من 30 كيلومتراً. صحيح أن مصلحتنا ضرورية في تجهيز المنازل الجديدة ومنازل العرسان، لكن فيها كثيراً من الكماليات، ومن الطبيعي أن تتأثر بأوضاع كهذه”.

ويلفت جواد إلى “أمرين أديا إلى هذا التراجع الكبير، تراجع نسبة المتزوجين منذ جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي، ثم أتت الحرب لتوجه ضربة قاسية للجميع، فمنذ ستة أشهر لم يقُم أحد بتجهيز بيت زوجي جديد، ربما الجميع ينتظرون انتهاء الحرب، وهم في الوقت عينه يتخوفون من تفاقمها، ومن سيغامر في تجهيز بيت جديد والحرب قد تمتد إليه أو تطاوله؟”.

العامل المشترك في كل هذه الأمور بنظر جواد “هو المال، إذ لم يعُد وافراً بين أيدي الناس مثلما كان قبل الأزمة الاقتصادية، فكان الموظفون يشكلون رأس حربة الاقتصاد، وكل واحد منهم كان يتقاضى راتباً يفوق ألف دولار أميركي، ويشترون كل ما يرغبون فيه، حتى الكماليات لأن التقسيط كان وارداً ومتاحاً. اليوم لا يمكن أن نبيع قطعة واحدة بالتقسيط، الدفع النقدي وإلا فلا بيع لأن الشاحنة التي تنقل البضائع إلينا، لا تنزلها قبل أن تقبض عداً ونقداً، ومع ذلك فالمضاربات لا تُعدّ أو تحصى، ويكفي أن يتابع الناس مواقع التواصل الاجتماعي و’فيسبوك‘ لتلاحظ مدى المضاربة التي ترهقنا هي الأخرى”.

ويشكو جواد من أن “قلة قليلة باتت تشتري تجهيزات كهربائية جديدة بعدما كان أكثر اتكالنا على البيوت الجديدة، بيوت الزواج، التي تجهز من الصفر إلى أكبر قطعة كهربائية في كل بيت، صرنا نرى من يأتي ويسألنا إن كانت لدينا بضائع مستعملة!، وحتى هؤلاء لم نعُد نراهم منذ اندلاع الحرب. راهنّا على الموسم الشتوي عسى أن نبيع المدافئ، تأخر الشتاء وطار الموسم، واليوم نراهن على الصيف إذ تنشط مبيعات المكيفات والمراوح التي ينعشها حضور المغتربين وما يحملونه من سيولة مالية، ونسبتهم عالية جداً في جنوب لبنان، لكن كل ذلك رهن بتوقف الحرب”.بدأ محمد غندور “أبو كريم” يساعد ابنته في تجهيز أثاث بيتها الزوجي الذي ستنتقل إليه الشهر المقبل، ويقول “قلت لها إن الأولوية يا ابنتي هي لتأسيس البيت وليس للبذخ في غير مكانه، وفعلاً اشترت كل ما تحتاج إليه أو ضروري من الأثاث، لكن هي فرحة عمر، لن أتركها غصة في حياتها، لي أقارب يمتلكون صالة أفراح كبيرة في النبطية، ذهبت إليهم وساومتهم على أقل كلفات ممكنة، ومع ذلك سأقتصر في الدعوة على أقرب المقربين، أي على نطاق ضيق من دون مظاهر بارزة ولافتة وذلك لسببين اثنين، الأول تحاشياً للكلفة العالية والثاني بسبب الحزن العام الذي يخيم على الجنوب”.

اندبندنت

مقالات ذات صلة