ردّ إيران.. وردّ إسرائيل: لبنان سيكون الضحية…“ساعة الحسم على الجبهة الشمالية تقترب”؟
حصل الردّ على الردّ. عادةً إسرائيل “لا تنام على ضَيم”. تردّ خلال ساعات على أيّ استهداف ضدّها في الداخل أو الخارج. بيد أنّ استهدافها يوم 13 الجاري من قبل إيران يختلف عن كلّ الاستهدافات السابقة. فقد أتى من دولة كبرى في المنطقة، في توقيت حرج داخلياً وخارجياً. وجاء محبوكاً بدقّة وعناية كما يُحاك “السجّاد”. وجاء “عجميّاً” بامتياز في التحضير والتبليغ والتنفيذ والتعليق بعد التنفيذ، فتطلّب ردّاً إسرائيلياً مناسباً ومتناسباً. هذا ما حصل في أصفهان. لكنّ الأحدث هو تصريحات القادة الإسرائيليين، وآخرهم الوزير في مجلس الحرب بني غاتنس، الذي قال الأحد الماضي إنّ “ساعة الحسم على الجبهة الشمالية تقترب”.
بعد اغتيال العميد البارز في الحرس الثوري الإيرانيّ محمد رضا زاهدي في قصف إسرائيلي على قنصلية إيران في سوريا، وعدت إيران بالردّ. في البداية لم يُؤخذ وعيدها على محمل الجدّ. فمنذ سنوات اغتيل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليمانيّ، وهو أهمّ بكثير من زاهدي… اعتاد الجمهور على ردّ “مسرحيّ” ضدّ القواعد الأميركيّة من باب رفع العتب. ومنذ سنوات تستهدف إسرائيل قادة الحرس الثوريّ في سوريا وتقتل قادته وقادة الحزب، ولا تردّ إيران. كما اغتالت إسرائيل رأس المشروع النووي الإيراني، وفي قلب طهران، واستهدفت مفاعل نطنز النوويّ… ولم تردّ إيران أيضاً.
هذه المرّة تخطّى الاستهداف ما سبقه ليس من ناحية أهميّة الهدف، إنّما في رمزيّة المكان. فالقصف كان على القنصلية الإيرانية في سوريا، أي على أرض إيرانيّة بحسب القوانين الدولية. من هنا لم يعد بإمكان طهران سوى الردّ الذي نفّذته في 13 نيسان الجاري بعدما بلّغت أميركا عبر سويسرا، كما كشف وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان قبل أيّام. وبالطبع أميركا أبلغت إسرائيل.
حاكت إيران ردّها على اغتيال زاهدي بشكل دقيق. أرادته ردّاً بين حدّين:
– عدم استفزاز إسرائيل ولا إلزامها بردّ يؤدّي إلى انزلاق الوضع نحو حرب شاملة.
– إيصال رسالة واضحة لكلّ من يعنيه الأمر في المنطقة والعالم عن قوّة إيران العسكريّة وجهوزيّتها. وقد وصلت الرسالة. وقرأها المعنيون. ويتمعّنون في قراءتها ليبنوا على الشيء مقتضاه.
لم يكن الهجوم الإيرانيّ المركّب بأكثر من 300 من المسيّرات والصواريخ الباليستية نوعاً من المفرقعات كما صوّر البعض. ولم يكن “هزليّاً” كما وصفه البعض الآخر. كان هجوماً عسكرياً يحمل رسائل عسكريّة وسياسيّة في آن، موجّهة لإسرائيل ودول المنطقة والعالم.
رسالة الرّدّ الإسرائيليّ
بدوره حمل ردّ إسرائيل على الردّ الإيرانيّ رسالة واضحة، مضمونها أنّه في حال تكرّر الهجوم الإيرانيّ ستكون المفاعلات النوويّة والمنشآت العسكريّة الإيرانيّة هدفاً لسلاح الجوّ الإسرائيليّ. من هنا اختيار مدينة أصفهان. لماذا؟
تحتوي أصفهان مراكز عسكريّة مهمّة لإيران. أهمّها مفاعل “نطنز” النوويّ المختصّ بتخصيب اليورانيوم. كما تضمّ مركزاً لمعالجة اليورانيوم. هذا إضافة إلى شركة صناعة الطائرات الذي تنتج المسيّرات الإيرانيّة، ومنها “شاهد 129” و”شاهد 136″، التي استُعملت في الهجوم ضدّ إسرائيل. كما تحتوي على قاعدة جوّيّة عسكريّة.
توقّف المواجهة المباشرة
ردّ إيران على اغتيال زاهدي وردّ إسرائيل على الردّ أكّدا المؤكّد. الطرفان لا يريدان حرباً مباشرة. فإيران أبلغت تل أبيب بالهجوم، وهذا أصبح معلوماً. وإسرائيل اتّفقت مع طهران، ولو ضمنيّاً، على عدم الإعلان بأنّ هجوماً استهدف أصفهان. لذلك لم تتبنَّ الحكومة الإسرائيليّة الهجوم. ولن تفعل. اكتفت بكلام المصادر. وإيران من جهتها قالت إنّ ما حصل هو “تسلّل” من الخارج. وأبلغت إسرائيل عبر وزير الخارجية الروسيّ بأنّها لن تردّ. بالتالي توقّفت المواجهة عند هذا الحدّ بعدما حُبست الأنفاس في المنطقة والعالم على مدى أيام. لماذا؟
الواقعيّة الإيرانيّة والأولويّة الإسرائيليّة
لقد أظهرت إيران، مرّة أخرى، أنّها تتعامل مع الأحداث بواقعيّة سياسيّة. فهي تُدرك أنّ أيّ مواجهة مباشرة مع إسرائيل ليست في مصلحتها. فإسرائيل تتفوّق عليها عسكرياً وسياسياً.
– أوّلاً عسكريّاً: تكفي العودة إلى بعض الأرقام للتأكّد من ذلك. بحسب “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجيّة” (أحد أبرز مراكز الدراسات العالميّة)، بلغت الميزانية العسكريّة الإسرائيليّة 19 مليار دولار في 2022، بينما بلغت ميزانية إيران العسكرية في العام ذاته 7.4 مليارات دولار.
لدى سلاح الجوّ الإسرائيليّ حوالي 340 طائرة حربيّة من أحدث الطائرات مثل إف-15 وإف-35. بينما يمتلك سلاح الجوّ الإيرانيّ 320 طائرة معظمها أميركيّة قديمة الصنع (إف-4 وإف-5) تعود إلى مرحلة الشاه. ولا يُعرف أيٌّ منها ما زال في الخدمة بسبب النقص في قطع الغيار العائد إلى العقوبات المفروضة على إيران.
لن نعرّج على سلاح المدرّعات وعديد القوّات المسلّحة لدى كلّ من الدولتين لأنّه لا حدود مشتركة بينهما. وأيّ حرب مباشرة بينهما، في حال اندلاعها، ستُخاض جوّاً بالطائرات والصواريخ والمسيّرات.
هنا تتفوّق إيران بعدد الصواريخ الباليستية البالغ حوالي 3,000 بحسب الجنرال كينث ماكينزي، قائد القوات المسلّحة الأميركيّة. في المقابل لدى إسرائيل نظام “القبّة الحديديّة” وأنظمة دفاع أخرى مضادّة للصواريخ. أمّا المسيّرات فمن الصعب الوصول إلى أهدافها في إسرائيل التي تبعد 2,100 كلم. وهذا ما أثبته هجوم 13 نيسان.
– ثانياً سياسيّاً: الهجوم الإيرانيّ على إسرائيل أعاد تظهير الدعم الدوليّ لها بعدما كان قد تراجع نسبياً بسبب وحشية الحرب التي تشنّها في غزّة. وقد أقرّت الدول الصناعية الكبرى السبع التنسيق فيما بينها في ما خصّ العقوبات على إيران. وهو ما سيؤدّي إلى عزلة إيران أكثر على الساحة الدوليّة وزيادة الضغوطات على اقتصادها المتهالك.
إسرائيل، من جهتها، أولويّتها اليوم التخلّص من حماس في غزّة.لا تريد تبديد قواها العسكريّة في حرب مع إيران. ولهذا السبب لم تشنّ حرباً شاملة ضدّ الحزب في لبنان، حتى الساعة. وعلى الرغم من الدعم الأميركيّ والأوروبيّ لها، فهي تعرّضت لضغوط كبيرة لعدم المغامرة في مواجهة مباشرة مع إيران.
الخطر الأكبر على الجبهة اللبنانيّة
بعد ردّ إيران وردّ إسرائيل على الردّ، ستتوجّه الأنظار أكثر إلى ساحات الصراع بين الدولتين. ساحة غزّة مشتعلة إلى الحدّ الأقصى. جبهة العراق، عُلّق العمل فيها بعد القصف الأميركيّ للميليشيات الإيرانيّة. جبهة اليمن فعلت أقصى ما يمكنها فعله، وهو استهداف البواخر العابرة لمضيق باب المندب.
تبقى الجبهة اللبنانيّة. لم يستعمل الحزب وإسرائيل، حتى الساعة، كامل قوّتهما فيها. هل يؤدّي تطوُّر المواجهة الإيرانيّة – الإسرائيليّة إلى الانتقال من المواجهة المحدودة إلى الحرب الشاملة؟
الخطر كبير. ربّما لهذا السبب التقى إيمانويل ماكرون برئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون في قصر الإليزيه سعياً إلى تراجع الحزب جغرافيّاً عن الحدود مقابل تراجع إسرائيل عن خرق الأجواء اللبنانيّة. بيد أنّ الكلمة النهائية لدى الأمين العام للحزب، الذي قال: “أنا أفتخر أن أكون جنديّاً في ولاية الفقيه”. وهو بالفعل يخوض الحروب عنها منذ عقود في لبنان والمنطقة… وقد يكون لبنان هو ضحية هذا الصراع بالواسطة.
فادي الاحمر- اساس