ضربة إسرائيل في أصفهان وصفعة الفيتو في نيويورك: الدول العربية في المقاعد الخلفية
هل نجحت أميركا بـ”ترتيب” الردّ الإسرائيلي على طهران كما فعلت في ردّ الأخيرة على قصف قنصليّتها في دمشق؟ هل نجحت في تجنّب اتّساع المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى حرب مفتوحة؟ بلغ سقف المواجهة بين طهران وتل أبيب ذروة جديدة تزيد المخاوف على جبهات أخرى، منها لبنان. أصل المشكلة، فلسطين، حجبته التطوّرات ثمّ الفيتو الأميركي على الاعتراف بفلسطين دولة دائمة العضوية في الأمم المتحدة. وشكّل ذلك صفعة للعرب.
قبل الردّ الإسرائيلي على الضربات الصاروخية الإيرانية، اعتمدت واشنطن التشدّد مع إيران والضغوط على إسرائيل، لتجنّب انزلاق المنطقة إلى حرب. فالخطر الأكبر بالنسبة إليها هو أن تضطرّ إلى التورّط فيها.
الأهداف الإيرانيّة والإسرائيليّة تتعدّى “الاحتواء”
بهذا النهج دفعت واشنطن إلى “ترتيب” ردّ إسرائيلي جرى “تصميمه” بحيث تستطيع طهران “احتواءه”، كما نُقل عن مسؤول إسرائيلي. نجحت الضربات الصاروخية الإيرانية المدروسة ليل 13 نيسان، والردّ عليها فجر أمس في أصفهان، بإبقاء المواجهة محدودة. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الرسائل التي تبادلتها إيران وإسرائيل خفّضت المخاطر. فكونها محدودة ومدروسة لا يلغي أنّ أهدافها بعيدة المدى. وقد تكون إشاعة أجواء عن “مسرحيّات” وضع سيناريواتها “المُخرج” الأميركي في حالتَي الضربتين الإيرانية ثمّ الإسرائيلية، غطاءً لجدّيتها. تحت ستار ضبط المواجهة ودرء حرب شاملة، هناك ارتفاع متدرّج في مستوى الأهداف من وراء الضربات المتبادلة:
– أوّلاً: طهران اخترقت الخطوط الحمر كافّة بـ”طوفان” الصواريخ والمسيّرات إلى داخل إسرائيل، حتى لو اقتصرت الإصابات على جرح طفلة بدويّة:
تكتيك طهران العسكريّ
– تقصّدت أن يكون ردّها مدروساً، وهو ما سمّاه مستشار المرشد الجنرال يحيى رحيم صفوي “حكمة” علي خامنئي. لكنّه أتى وفق حسابات تستبعد دعم أميركا للردّ الإسرائيلي، وهو ما جاء على لسان جو بايدن نفسه.
– عسكريّاً، شكّل العدد الكبير من المسيّرات والصواريخ العاديّة التي وجّهت رسالة بامتلاكها كمّية منها تكتيكاً فعّالاً. أخطرت مئات المسيّرات التي أطلقتها والتي عليها قطع مسافة طويلة إسرائيل بالتهيّؤ للضربة. لكنّها أشغلت الطائرات الأميركية والبريطانية في تعقّبها لإسقاطها. أتبعتها بوابل من الصواريخ الباليستية على صحراء النقب، وقد انشغلت الدفاعات الإسرائيلية بإسقاطها. ثمّ أتبعتها بالصواريخ الباليستية الدقيقة التي بلغت قاعدة “نفاديم” الجوّية التي أُصيبت بأضرار ولو محدودة حسب إسرائيل. الصواريخ العاديّة أشغلت الدفاعات الإسرائيلية بحيث تمكّنت الصواريخ الدقيقة لاحقاً من السقوط في أهدافها. وهو ما يسمّى عسكرياً “إشباع” (saturation) الأجواء بالصواريخ للحدّ من قدرة الدفاعات الجوّية على إصابتها. كان ذلك اختباراً لدور فائض الوسائل الجوّية التي تملكها طهران.
نفي استهداف ديمونا… واختبار أسلحة الحزب
– نفي إسرائيل، ومن بعدها إيران، أن يكون جرى استهداف مفاعل ديمونا النووي، لا يعني سوى القول إنّ باستطاعتها ذلك.
– نفي الأنباء عن اشتراك الحوثيين في اليمن و”الحشد الشعبي” في العراق في إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، يشير إلى دورهما في مواجهة مستقبلية.
– مع امتناع “الحزب” عن الاشتراك في الردّ الإيراني، فإنّه رفع قبل ساعات من الضربة سقف الاستهدافات للمواقع الإسرائيلية. وقبل 36 ساعة من الردّ الإسرائيلي، أوقع 14 إصابة بين جنود إسرائيليين في أحد مراكز تجمّعهم الحدودية بالمسيّرات الانتحارية والصواريخ الموجّهة.
– دأب الجيش الإسرائيلي الذي نجح في اصطياد قادة ميدانيين من الحزب، منذ 8 تشرين الأول، على استدراجه لإخراج أسلحة فعّالة بحوزته. كشف الأخير عن بعضها، حين أسقط بصاروخ أرض جوّ مسيّرة “هرمس 900” المتطوّرة قبل أسبوعين، مثلاً. وواصل إخفاء غيرها… وهو ما يوحي بترك قدرات الحزب إلى مرحلة لاحقة من المواجهة المحتملة.
تأخير إسرائيل ردّها… مثل إيران
– ثانياً: اعتمدت تل أبيب الأسلوب الإعلامي السياسي نفسه الذي سلكته طهران قبل عملية 13 نيسان، في ضربتها في أصفهان أمس. أجّلت توقيتها في تمهيد نفسيّ لحصولها، واستغلّت الأيام الستّة الفاصلة بالتحضير لمحدوديّتها مع واشنطن:
– لم يكن ممكناً أن تقبل تل أبيب في ظلّ التحالف الحاكم الحالي أن تمتنع عن الردّ على ردّ إيران على قصف قنصليّتها في دمشق. فمبرّر “الخطر الوجودي” الذي سوّغ لبنيامين نتنياهو واليمين الديني المتطرّف الحملة على غزة ماثل أكثر بعد تلقّيهم الصواريخ الإيرانية.
– خفّفت إيران من أهمية ردّ إسرائيل فجر أمس، بما يشبه إنكاره بداية، ثمّ بحديث عن محدودية أضراره ثانياً، ثمّ باعتباره حدثاً أمنيّاً لا عسكرياً ثالثاً. هدف ذلك إلى عدم استعجال ردّها على تل أبيب. لاقت تل أبيب طهران بعدم التبنّي الرسمي للعمليّة، وصولاً إلى تسريبها عبر “جيروزاليم بوست” استغرابها تسريب خبر الضربة من قبل واشنطن.
مفاعل نوويّ قرب أصفهان والعقيدة النوويّة
– الردّ الإسرائيلي أصاب قاعدة عسكرية إيرانية في محيط أصفهان، وهو ما يوحي بأنّه ردّ “متناسب” على إصابة قاعدة “نفاديم” في النقب.
– الضربة كانت قريبة من المفاعل النووي الإيراني، وهو ما يشير إلى أنّ تل أبيب قادرة على إصابته لكن لم تفعل، تماماً كما تصرّفت طهران بالنسبة إلى مفاعل ديمونا.
– سبق ضربةَ إسرائيل بساعات ما نُسِب من قول إلى قائد كبير في “حرس الثورة” الإيراني جاء فيه أنّ “طهران قد تراجع عقيدتها النووية”. وهو تهديد يتطابق مع المعطيات بأنّ الأشهر الأخيرة (خلال حرب غزة) شهدت تطويراً لتخصيب اليورانيوم. الرسالة الإسرائيلية حول النووي ترتقي إلى مستوى هاجس تل أبيب بالتهديد الوجودي جرّاء البرنامج النووي الإيراني، وهو أشدّ من الهاجس الذي نشأ بعد “طوفان الأقصى”.
– تزامنت الضربة الإسرائيلية مع مناخ غربي، في الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، دشّنته وزارة الخزانة الأميركية بفرضها وبريطانيا عقوبات إضافية على طهران. الأخيرة كانت تأمل رفع جزء منها ثمناً لتعقّلها منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) لأنّها امتنعت عن توسيع الحرب. وعندما طالبتها واشنطن بعدم الانتقام لقصف قنصليّتها في دمشق، اقترحت أن يكون المقابل هو وقف النار في غزة، كما صرّح مسؤولون إيرانيون. ما حصل العكس، إذ تجمّدت مفاوضات الهدنة وتصاعدت الضغوط الأميركية على الوسيط القطري.
غطاء العقوبات والانتقال إلى استهداف الوكلاء؟
– هدف العقوبات الجديدة، بحجّة “زعزعة إيران استقرار المنطقة” بالصواريخ والمسيّرات، والتدخّلات في غير دولة، لم يقتصر على تهدئة إسرائيل. قيل إنّ واشنطن سعت بذلك إلى إقناع الأخيرة بعدم قصف إيران، لكنّ الحقيقة أنّ العقوبات غطاء سياسي لتشدّد إسرائيلي.
– قيل إنّه مقابل انضباط إسرائيل سيُسمح لها باقتحام رفح، لكنّ مسؤولاً أميركياً نفى لـ”سي إن إن” حصول مقايضة كهذه. فخطّة دخول رفح يجري تجهيزها في اجتماعات المستويين العسكريَّين للبلدين، تحت عنوان التأييد الأميركي لإنهاء وجود “حماس” العسكري فيها. والجيش الإسرائيلي يواصل التمهيد لها بتقسيمها مربّعات، فيما يصعّد المستوطنون عمليّاتهم ضدّ فلسطينيّي الضفّة الغربية.
– يترقّب العديد من المراقبين الدخول في مرحلة من المواجهات العسكرية الهادفة إلى إضعاف وكلاء إيران في المنطقة، وهو ما يضع لبنان في رقعة الخطر، طالما سحبت طهران معظم قادة “حرس الثورة” من سوريا وتركت العديد من المواقع، لا سيما في الجنوب.
– أسقط الفيتو الأميركي كلّ الوعود الأميركية للدول العربية بالسعي إلى حلّ الدولتين، وأرضى إسرائيل. وتسلّح بايدن، بموازاة الضربة الإسرائيلية، بموقف يعينه على مواجهة مزايدة الجمهوريين عليه في دعم إسرائيل.
في كلّ وقائع المواجهة هذه، تجلس الدول العربية في المقاعد الخلفية. وإذا كان من تفاوض سيشغل المسرح السياسي الدولي لتهدئة المواجهة، فسيحصل مع طهران.
وليد شقير- اساس