الحرب الأهليّة لحظة لم تغادرنا… وكأنّ الزمن اللبناني لا يمضي. وكأنّنا لا نعيش هنا بعضنا مع بعض
نصف قرن تقريباً مضى على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان 1975. إلا أنّ طيفها لا يغادرنا. عُدّتها وعتادها كذلك. لماذا تفشل الدولة في كلّ سلم أو هدنة؟ لماذا نمضي من حرب إلى حرب لا تفصل بينهما إلا استراحة للمحاربين، اسمها السلم الأهلي، ليعودوا أشدّ وأقوى؟
49 سنةً مضت على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان 1975. نصف قرن إلا أشهراً. وكأنّها هنا لم تبارح. وكأنّها بين ظهرانينا لا تغادرنا ولا نغادرها. حتّى إنّها قبل أيام كادت تندلع من جديد.
قبل أيام، كشفت جريمة مقتل باسكال سليمان، منسّق حزب القوات اللبنانية في جبيل، أنّنا نعيش في حرب مستترة. حرب لم يعد ينقصها سوى الرصاص وأصوات المدافع. صار القتلى في البلد وفي كلّ مكان: في الجنوب ضدّ إسرائيل، وعلى طرقات الجمهورية وفي أحيائها. وبين بيوتها وفيها. ساعةً بدافع السرقة، وساعةً بدافع الشرف، وساعات في حوادث غامضة.
بين الأمس واليوم
نحن اليوم أمام اللغة التحريضية والخطاب الطائفي اللذين يستعديان الآخر ويجلبانه مخفوراً بلغته وخطابه هو أيضاً إلى ساحة المعركة. يُستحضر هؤلاء على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي وفي المواقع والصحف ونشرات الأخبار، وغبّ الطلب.
الانقسام أيضاً حاضر بيننا. لم يغادرنا أصلاً. جلّ ما فعله أنّه اتّخذ لباساً جديداً. لم يعد الخلاف على الفلسطينيين في لبنان. صار على الفلسطينيين في فلسطين. الانقسام حول السوري لا يزال على حاله، مع تعديل طفيف: لم يعد السوريون في لبنان جيشاً ومخابرات وقوّات ردع. صاروا عمّالاً ومهجّرين ولاجئين وعائلات هاربة من الموت فحسب.
ثمّة تعديلات غير طفيفة أيضاً، أبرزها:
– الأحزاب اللاطائفية تراجعت شعبيّتها وتقلّص انتشارها. لم يعد لها الوزن الذي كان لها عشيّة عام 1975.
– الدولة تقلّصت حتى صارت بحجم تسيير أمور وللضرورة القصوى. لم تعد هناك مؤسّسات أو هيبة ما للدولة كما في عام 1975. الفراغ عنوان الجمهورية اليوم.
ـ لبنان المصارف والمصايف انتهى. نحن اليوم في بلد منهار اقتصادياً ويعيش في أزمة اقتصادية هي واحدة من الأضخم عالمياً وتاريخياً.
أيضاً وأيضاً، لم يعد لبنان ضمن سلّم أولويّات الدول الغربية أو حتى العربية. لم يعد التنوّع والتعدّد في زمن يهوديّة الدولة الإسرائيلية والإسلام الجهادي، مرغوبَين أو موضع اهتمام. لم يعد لبنان نفسه ذا وجه عربي. لبنان اليوم ذو وجه فارسي. لا مارونية سياسية في لبنان اليوم. في لبنان سلاح الحزب فقط لا غير.
من يبني الدولة يدمّرها..
بعد نصف قرن إلّا أشهراً، هذا هو الوضع في لبنان. وعليه، السؤال الملحاح اليوم هو: أين هي الدولة؟ ماذا فعلت السلطات السياسية طوال ثلاثة عقود بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990؟ لماذا كلّما تقدّمنا في الزمن في هذا الوطن، نعود إلى نقطة البداية، نقطة الحرب الأهلية، وكأنّنا نعيش في هدنات بين حروب؟
بين الحرب والحرب نأخذ “استراحة” نغيّر خلالها خطابنا ونريح أجسادنا ونجمع الذخائر والمؤن، نصلح الطرقات ونرمّم المباني، ثمّ نعيد المتاريس إلى مواضعها الجديدة ونشعلها من جديد.
ثمّة سببان رئيسان أساسيّان يقفان خلف هذه الدائرة التي نلفّ حولها ونعود إلى النقطة نفسها.
ـ السبب الأوّل أنّ أمراء حروبنا هم أمراء سلمنا. قادة الميليشيات المتقاتلة على المحاور، هم قادة الدولة والقائمون بها وبأعمالها. يجدّدون لأنفسهم ولايةً إثر ولاية، وعهداً تلو عهد. ويستحضرون تاريخهم الدموي كلّما اقتضت الضرورة. الولاء لهم، وللطوائف التي يديرونها ويتحكّمون بأدقّ تفاصيلها الدينية والدنيوية. لا ولاء للوطن ولا للدولة. من يدمّر الدولة يبنِها، ومن يبنِها يدمّرها من جديد.
دولة بلا عقد اجتماعيّ؟
ـ السبب الثاني وهو الأكثر جوهريةً، الدولة الوطنية الحديثة في لبنان نفسها. الدولة في لبنان غنيمة تتقاسمها الطوائف والأهل، ولذلك أسباب تاريخية. أعلن الدولة اللبنانية وأوجدها في عصرنا الحديث، الانتدابُ الفرنسيّ. وقف الجنرال الفرنسي غورو على شرفة قصر الصنوبر عام 1920، وأعلنها بمن حضر.
لم تُبنَ الدولة على عقد اجتماعي، ولا على إرادة سكّانية. لبنانيون كثر رفضوا الانضواء تحت لوائها أو الانتماء إليها. فُرضت عليهم فرضاً. لبنانيون آخرون طلبوها ونشدوها في المحافل الدولية فكانت لهم. لاحقاً تمّ التوافق على شبه عقد اجتماعي. حتى الدستور كان حوله خلاف وانقسام.
أواخر الستينيات، تنازلت الدولة الفتيّة الموعودة عن أبرز مهامّها: احتكار أدوات العنف. اتفاقية القاهرة عام 1969، شرّعت السلاح الفلسطيني. تدهورت الأمور وكان ما كان عام 1975.
بعد الطائف، شرّعت الدولة نفسُها عدم احتكارها وسائل العنف، تحت حجّة الصراع مع إسرائيل. كنّا دولةً وشعباً وميليشيات من خارج القانون. صرنا دولةً وشعباً ومقاومةً. تنازلت الدولة عن أبرز صفاتها ومهامّها. صار عندها سلاح فوق سلاحها وأعلى منه وربّما أقوى.
أبعد من ذلك، لم تشرّع لسلاح غير سلاحها فحسب، بل سلّمت قرار السلم والحرب لطرف دونها. إلى ذلك، لم تحقّق عدالة اجتماعية ولا عدالة اقتصادية، أي لا عدل ولا ملك. وعليه، لا وطن ولا مواطنين. وبالضرورة لا سلم ولا أمن ولا أمان.
السؤال الملحاح أيضاً: لماذا لا تندلع الحرب إذاً؟
لسبب بسيط هو أنّ الحرب الأهلية اللبنانية كانت في أبرز وجوهها حروباً للآخرين على أرضنا كما كتب يوماً الصحافي الكبير الراحل غسان تويني. والآخرون لا يريدون حرباً اليوم، وتلك هي المسألة. نحن جاهزون. سلاحنا معنا. مدافعنا في مرابضها. انقسامنا واختلافاتنا في جيوبنا نخرجها متى شئنا. وذلك متى حانت الساعة.
إقرأ أيضاً: هنيّة على خطى رعد و”السيّد”… عن التحام الفكر والسلوك
نصف قرن إلا أشهراً ولا تزال لحظة اندلاع الحرب قائمةً لم تغادر. وكأنّ الزمن اللبناني لا يمضي. وكأنّنا لا نعيش هنا بعضنا مع بعض، نحن اللبنانيين، منذ مئة سنة ونيّف. ما زلنا عصيّين على السلم، وما زالت قبائلنا تفكّ خيامها ثمّ تنصبها كلّما هبّت ريح، أو جفّ مرعى، أو نضب ماء.
ايمن جزيني- اساس