أسبوع باسكال سليمان: ماذا بعد الجريمة؟ ماذا بعد الموت؟
كان أحد أساتذتنا في الجامعة يقول إنّك حين تخاف من أمر ما ولا تنفكّ تتحدّث عنه وعن خوفك من حدوثه، فإنّ هذا ربّما يساهم في استجلاب هذا الحدوث. في هذه الخانة يمكن تصنيف كثير من الخطاب الذي سمعناه إبّان الأسبوع المنصرم عن الفتنة بين اللبنانيّين وعن ضرورة تجنّبها، وذلك بعد مقتل السيّد باسكال سليمان رحمه الله. بعض هذا الخطاب ينتسب إلى باب النفي في معرض التأكيد. فبعضهم يتكلّم على واجب تفادي الفتنة لكونه يتمنّى حصولها، شأنه شأن الذي يدعوك إلى العشاء ويستحلفك بالله ألّا تصطحب معك هديّة، فيما هو يتمنّى في قرارة نفسه أن تحضر معك قنّينةً من النبيذ الفاخر أو قالباً من الكنافة الشهيّة بالجبن. التأكيد من باب النفي، واستحضار الفتن، أو بعض مظاهرها، من باب التوكيد على ضرورة عدم حصولها، لعبة سيكولوجيّة قذرة يتقنها معظم الساسة في لبنان، ولا سيّما الذي نالوا شهادات دكتوراه دولة في استغلال محازبيهم عبر دفعهم إلى مزيد من الطائفيّة والمذهبيّة عبر التحذير منهما.
لكنّ هذا، طبعاً، جزء من الحقيقة فقط. فالأمور التي نكتمها ونكبتها ولا نقوى على أن نفصح عن خوفنا منها غالباً ما تنقلب علينا، وتتحوّل إلى متلازمات عنفيّة في سلوكنا الفرديّ والجمعيّ. بيت القصيد، هنا، هو كيف نتكلّم عليها، وما هي الوسائل المستخدمة في سبيل الإفصاح. ليس من باب الصدفة أنّ علماء السيكولوجيا واختصاصيّي العلاج السيكولوجيّ استنبطوا مناهج تعين على أن يصبح الإفصاح، سواءً بالكلام أو بطرائق أخرى، منطلقاً لشفاء النفس البشريّة «الأمّارة بالسوء» من آفاتها ومساوئها. غير أنّ معظم الكلام السياسيّ في لبنان، الذي بات، بالإضافة إلى سطحيّته، يقارب حدّ الاجترار، ما زال بعيداً من الكلام الذي يرمي إلى الشفاء الحقيقيّ. فهو، إن لم يقع في فخّ الشعبويّة والتحريض والتلاعب بعقول الجمهور، هذا الذي حذّر منه أفلاطون حين دعا إلى تولية الحكماء، أفرط في العموميّات أو الأخلاقيّات الجوفاء أو تدوير الزوايا أو تأجيل ما لا يسوغ تأجيل البحث فيه.
هذا كلّه لا ينفي أنّه كان ثمّة قدر كبير من التعقّل والحكمة لدى بعضهم حين شدّدوا على أنّ المشكلة ليست بين اللبنانيّين و«النازحين» السوريّين، بل هي في مكان آخر عنوانه تفلّت السلاح اللا-شرعيّ وما يستتبعه من غياب للدولة وتحلّل لمفهوم المواطنة. ثمّة مشكلة، طبعاً، في فشل الدولة في تنظيم أمور اللجوء السوريّ في لبنان. وثمّة، من الجانبين، ذاكرات مجروحة بالعنف والقمع والطرد والسجن والتعذيب والاغتصاب. وثمّة، لدى أفراد الشعبين، عقد نقص وعقد استعلاء وظاهرة سمّاها فرويد «نرجسيّة الاختلافات الصغيرة». وثمّة كمّ هائل من الكبت التاريخيّ المتراكم لم يعكف السوريّون واللبنانيّون على التصدّي له بجدّيّة سعياً إلى بلسمة الجروح التي لم تندمل بعد على صفحات نفوسهم. لكنّ هذا كلّه في كفّة، وتحويل السوريّين المقيمين في لبنان إلى كبش محرقة، لأنّ حفنةً من قطّاع الطرق من التابعيّة السوريّة قتلوا باسكال سليمان، في كفّة أخرى. هذا ليس تقليلاً من فداحة الجريمة، ولا هو انتقاص من احتمالات شرطها السياسيّ. لكن من غير المسموح به أن يلجأ مسؤولون لبنانيّون، مدنيّون وعسكريّون، إلى التعويض عن ارتباكهم وفشلهم في حماية الناس وعلاقتهم الملتبسة بحملة السلاح المتفلّت بالكلام على السوريّين وكأنّهم كتلة من المجرمين والسَرَقة والقتلة. المسيحيّون بالذات مطالبون بأن يعتنقوا كلام الفيلسوف الفرنسيّ رينيه جيرار أنّ موت يسوع الناصريّ على الصليب فكّك منطق الكبش الذي يضحّى به في سبيل أن تستعيد الجماعة استقرارها. لا كباش محرقة ولا جداء فداء بعد موت المسيح. لقد أحسن أحدهم حين قال، في تأبين باسكال سليمان، إنّ المشكلة ليست طائفيّةً ولا مناطقيّةً ولا عرقيّة. ولقد خزي أشباه النوّاب وأنصاف الوزراء الذين اعتبروا أنّ المشكلة تقوم في «النزوح» السوريّ لمجرّد كونهم لا يجرؤون على قول الحقيقة وتسمية الأمور بأسمائها.
لكن يبقى الثقب الأكبر في كلّ ما سمعناه إبّان الأسبوع المنصرم هو الماذا بعد: ماذا بعد الجريمة؟ ماذا بعد الموت؟ ماذا بعد السخط والنقمة والحرقة؟ وأيّ نوع من التراكم هو هذا الذي يحصي الجريمة تلو الجريمة ولا يُنتج شيئاً سوى العلم بما كنّا نعلمه يقيناً بأنّ آلة القتل لم يبقَ لها سوى أن تمعن في القتل لفرط ما فقدت صوابها وجنّ جنونها. ما سمعناه من خطاب، حتّى الجيّد منه، ظلّ يدور في فلك العموميّات ولا يتصدّى للتفاصيل فيما كلّ شياطين الأرض تكمن في التفاصيل. لئن كانت الطريق طويلةً وصعبة، إلّا أنّ الطريق تحتاج إلى خريطة لا بالرغم من طولها وصعوبتها، بل بسبب هذين الصعوبة والطول. لقد هُدر وقت كثير منذ انتخابات الندوة البرلمانيّة الأخيرة. وهُدر وقت أكثر منذ انتفاضة ١٧ تشرين الغرّاء. وآن الأوان لتجميع الطاقات ورصد الإمكانات وبلورة السيناريوهات. ودقّت الساحة كي يتحوّل الناقمون والغاضبون والحزانى إلى خليّة نحل تحمل مشروعاً صريحاً شفّافاً واضح المعالم. لا يمكن بعد اليوم الاكتفاء بالقول إنّ المشروع هو استعادة الدولة. السؤال المفصليّ هو كيف السبيل إلى هذه الاستعادة. ما هي المعرفة التي كان ينبغي لنا أن نحصّلها ولم نحصّلها؟ مَن هم الفهماء الذين كان ينبغي لنا أن نستنجد بهم ولم نستنجد بهم؟ ما هو العمل الجماعيّ الذي كان يمكننا أن نقوم به ولم نقم به؟ والأهمّ من هذا كلّه: أين أخفقنا ولماذا، وأين أصبنا ولماذا؟ بعد أسبوع الموت الذي انقضى، بات من الضروريّ التصدّي بسرعة لهذه الأسئلة الشاقّة لئلّا يبقى الناس معلّقين بين موتين: موت يعرفون مكان حصوله وزمانه، وموت يتوقّعون حصوله فيما عيونهم شاخصة إلى اللامكان واللازمان.
اسعد قطان- المدن