مشاهد من الحرب الأهلية “الأولى”: انتصر المسلحون كلهم!
أقول “الأولى” لأنني بصراحة أتوقع “الثانية”.
تذكرت تلك المشاهد والوقائع، بعد خطبتين مؤثرتين بلطافتهما ودماثتهما في اليومين الأخيرين.
– المشهد الأول: شاب مسلح يلاحق شابة تمشي على الرصيف. تصدّه بهدوء. ينفجر غاضباً ويبدأ بشتمها بكلمات مقذعة فيما هي تهرول مبتعدة. كان يصرخ: من تظنين نفسك يا (…)؟ ثم استدار نحو المارة المجفولين والمندهشين، معلناً: بنت بلا أخلاق.
طبعاً، أهم شيء كان عند هذا الشاب كرامته المجروحة. والأكثر أهمية هيبته التي كسرتها وقاحة الصدّ والرفض، رغم جماله “المسلح”.
– المشهد الثاني: رجل مسلح “يجعر” ويتطاير البصاق من فمه، بوجه مواطن أعزل، ملقناً إياه درساً في التهذيب “اخفض صوتك عندما تتحدث معي”، “اخفض رأسك يا بهيم”. وكان ذاك المواطن التعس يتلعثم، فيصرخ المسلح غضباً: إخرس، أعرف مع من تتكلم يا أخو(…). لكمة أولى، فثانية متبوعة بركلة.
الجمهور يتفرج، وربما كان يلوم المواطن “الغبي” الذي لم يحسب حساباً لـ”موازين القوى”.
– المشهد الثالث: مواطن يقود سيارته في شارع ضيق، تأتيه سيارة بالاتجاه المعاكس يقودها مسلح. يطل المواطن برأسه من النافذة مشيراً للآخر أنه آتٍ بعكس السير. ينزل المسلح من السيارة ممتشقاً مسدسه: “انقبر رجاع ولاه.. طز فيك وبقانون السير تبعك”.
بكل سرور وابتسامة حمقاء، فهم المواطن ما عليه فعله.
– المشهد الرابع: طابور من المواطنين أمام فرن ينتظرون دورهم للحصول على ربطة خبز. يتقدم مسلح متجاوزاً الطابور ويأمر العامل بإعطائه خمس ربطات خبز دفعة واحدة. ولا أحد اعترض. لقد كان كل شيء يسير بنظام وصمت وانضباط.
– المشهد الخامس: مسلح يطلق الرصاص في الهواء، مقتحماً مخفر الدرك. يضع فوهة بندقيته الساخنة كالجمر لتلتصق على رقبة شرطي، راح يولول من الألم رافعاً يديه. والمسلح الساخط يقهقه: أنتم دولة يا كلاب؟ أنتم والأرزة وصرمايتي سوا.
– المشهد السادس: تصل سيدة وابنتها إلى منزلهما، لتجدا أن لصوصاً استولوا على المال والذهب والأشياء الثمينة. بعد خمس دقائق، يدق المسلح على الباب طالباً المئة ليرة بدل حراسة، بلهجة شامتة ومفضوحة.
– المشهد السابع: مسلحان في أواخر الليل، وقد استبد بهما الضجر في هذه الشوارع الفارغة المظلمة. وللترويح عن نفسيهما قررا افتعال اشتباك. دمرا بالرصاص سيارات الحي.
كانت متعتهما لا تقدر بثمن.
– المشهد الثامن: يدخل “المسؤول” المسلح إلى متجر الثياب. ينتقي بذلة ويسأل بكل اللؤم الممكن تصوره وهو يعدّل من زنار بنطاله المثقل بمسدس كبير: ما ثمنها؟ كان صاحب المحل فطناً كفاية. كان جوابه سيحدد إن كان متجره سينفجر ذات ليلة أم سيبقى سليماً.
– المشهد التاسع: إطلاق نار كثيف في الهواء في كل المدينة ابتهاجاً بعملية قُتل فيها أحد جنود العدو. في اليوم التالي: مقتل طفل وبائع خضار وكشاش حمام بسبب الرصاص الطائش.
لقد كانت الجرائد مهتمة بـ”الصدمة” التي عاشها العدو.
– المشهد العاشر: مواطن مسيحي في بيروت الغربية يتلقى مكالمة هاتفية للمرة الثانية. كان يسمع النصيحة اللبقة: ما الذي يبقيك هنا؟
أيام قليلة، وصارت شقته فارغة، على بابها ورقة حزبية تعلن مصادرتها رسمياً.
– المشهد الحادي عشر: اشتباك بين مسلحين، تنازعاً على بندقية جندي لبناني مقتول. من يستحقها؟ من يستحق الاستيلاء على البلد برمته؟
– المشهد الثاني عشر: خطيب يحض الجماهير على مقارعة الاستعمار. بعد أسبوع كان قد باع مستودع الذخيرة وهاجر إلى أميركا.
– المشهد الثالث عشر: عربة خشبية لبيع كاسيتات وشرائط الفيديو والبوسترات، بينك فلويد وآبا ومايكل جاكسون وجوليا بطرس وجورج وسوف وزياد الرحباني، ومسرحيات عادل إمام وفيلم رامبو وأفلام البورنو الإيطالية، وملصقات غيفارا والإمام علي، وكتب حكومة العالم الخفية، وبروتوكولات حكماء صهيون، والماسونية.
كان ذاك هو العصر الذهبي للسوريالية.
– المشهد الرابع عشر: مسلح يقتلع ضرساً ذهبياً من جثة.
– المشهد الخامس عشر: يوم السادس من شباط 1984، خرج جميع المسجونين من السجون. إنجاز باهر، انتصار كبير للحرية.
ومنذ ذلك الوقت انتصر المسلحون كلهم، انتصاراً ما زلنا نتمتع بثماره حتى اليوم.
يوسف بزي- المدن