رابحون من مبادرة بكركي المسيحيّة… وخاسر واحد يغرّد خارج السرب

ليس الهدف من مبادرة بكركي الساعية إلى الخروج بوثيقة مسيحيّة وطنية موحّدة، تسجيل النقاط، لا بين المتحاورين المسيحيين من جهة، ولا بين المسيحيين وشركائهم المسلمين في لبنان من جهة أخرى، لكن بطبيعة الحال، اختلاف المقاربات واقتراب القوى السياسية المسيحية أو تباعدها عن الثوابت التاريخية للبطريركية المارونية والمزاج الشعبي المسيحي، يؤدي إلى فرز هذه القوى والأحزاب والتيارات بين رابحة وخاسرة.

ما لا يختلف عليه أي مسيحي وكثير من المسلمين هو مرجعية بكركي التاريخية، ودورها في رسم الكيان اللبناني الحالي وتثبيته، على الأقل، منذ نشأة لبنان الكبير. عندها أصدر مجلس الادارة اللّبناني قراراً في 16 حزيران 1919 بتشكيل وفد برئاسة البطريرك الياس الحويك إلى مؤتمر الصلح في فرساي-باريس، حاملاً معه خطاباً يتضمّن مطلب الاستقلال المطلق والسيادة التامة الداخلية والخارجية، ونجح في 10 تشرين الثاني 1919 بالحصول على تعهّد رئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو بإعلان استقلال لبنان بجبله وسهوله ومرافئه. ولكن هذا التعهّد بقي من دون تأكيد ومن دون تثبيت. إلا أن البطريرك الحويك كان آنذاك في أساس قيام لبنان وحمايته من المطالبين بضمه إلى مشروع سوريا الكبرى.

لا شك في أن البطاركة الموارنة لم يتوقفوا يوماً عن أداء دور الحامي لهوية لبنان وكيانه، لكن هذا “اللبنان” أصيب مؤخراً بالتفكّك والإنحلال والإنهيار نتيجة مشروع مذهبي مستورد من إيران، يحمله “حزب الله”، إذ يقوم على عقيدة لا تعترف بالحدود بين الدول، فحوّل لبنان جبهة مشاركة في حروب اقليمية خدمة لهذا المشروع التوسعي المخيف الذي ضرب مقوّمات أساسية قام عليها هذا البلد وأهمها: الدستور والحياد والشراكة الوطنية والميثاقية والديموقراطية والمؤسسات والقانون واحترام الشرعية العربية والدولية.

من هنا، انتفضت البطريركية المارونية مجدداً، وهذه المرة، بقيادة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي دأب منذ أعوام يُحذّر من تهميش المسيحيين وتعطيل الاستحقاقات الدستورية والمسّ بالدستور والشراكة الوطنية وعدم توريط لبنان بالحروب وضرورة استعادة الدولة لقرار الحرب والسلم.

طبعاً، لم يتجاوب “الحزب” مع نداءات البطريرك الراعي المتتالية، بل قام رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو الناطق الرسمي بإسم الثنائي الشيعي، بتحميل مسؤولية التقاعس في انتخاب رئيس الجمهورية إلى المسيحيين، لاعباً على وتر خلافاتهم، التي هي في أساسها ليست مرضيّة، بل تعكس تنوعاً سياسياً صحياً، لو كان لبنان بلداً طبيعياً. إلا أن القاصي والداني يعرفان أن المشكلة في أساسها وجوهرها ليست لدى المسيحيين، بل لدى الثنائي الشيعي وخصوصاً “حزب الله” الذي يفرض معادلة “انتخاب مرشّحه سليمان فرنجية أو استمرار الفراغ”. ولا بد من التذكير بأن المعارضة الوطنية التي تضم الكثير من النواب المسيحيين، تقاطعت مع “التيار الوطني الحر” على إسم الوزير السابق جهاد أزعور، وخاضت فيه الانتخابات، لكن الثنائي الشيعي لا يزال يعطّل الجلسات من خلال انسحاب نوابه في الدورة الثانية!

مع ذلك، ارتأى البطريرك الراعي مؤخراً طرح مبادرة مسيحية، تقوم على جمع أبرز الأحزاب والقوى المسيحية في ورشة عمل، تؤدي في نهايتها إلى صياغة وثيقة سياسية وطنيّة، تُطرح بعد الاتفاق على بنودها، على الشركاء المسلمين، لإعادة تثبيت الهوية اللبنانية والكيان مع عناوين واضحة تُحدد “أي لبنان نريد”.

وتشير مصادر مطلعة على المبادرة منذ انطلاقها حتى اليوم إلى “أن البطريركية المارونية هي أول الرابحين في الحراك المسيحي، لأنها نجحت في جمع الأطراف الأساسية، على الرغم من اختلافاتها الكبيرة، متّبعة معايير علمية وموضوعية لرسم خريطة الطريق وفق ثوابتها التاريخية، لا مصالح القوى السياسية المسيحية وأهدافها المختلفة، إلا أن هذه الورشة السياسية لم تكن لتبصر النور لولا مساعي المطران أنطوان بو نجم الذي سعى إلى استنباط وجهة نظر كل حزب أو تيار من الأفكار التي سيتم تداولها، إضافة إلى جهود فريق عمل سياسي ودستوري متخصص كان حضّر الأفكار بعيداً عن الأضواء، وأهمها: احترام سيادة لبنان، احترام الدستور وانتخاب رئيس، احترام القرارات الدولية وتنفيذها، رفض زجّ لبنان في الصراعات الاقليمية، رفض حصول حروب الآخرين على الأراضي اللبنانية، اللامركزية الادارية الموسّعة والتحقيق في تفجير المرفأ.

من جهة أخرى، أخذ الوضع المسيحي أهمية قصوى في الاجتماعات التي جمعت ممثلي الأحزاب والقوى السياسية، وربما كانت المفاجأة هي سهولة التفاهم بين كل القوى على النزيف الذي يتعرّض له المسيحيون، والإقرار بأن هناك افتئاتاً على الوظائف المسيحية ونوايا سيئة لتعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية، وتجاوز الدور المسيحي والشراكة الوطنية وخطر إفراغ المواقع المسيحية، والتزام لبنان الشرعية الدولية وإعادة العلاقات مع الدول العربية، وعدم تحويله دولة دينية والتصدّي لكلّ محاولات تغيير وجهه، وأهمية صون الحضور الديموغرافي والجغرافي المسيحي، والتمسّك بالمناصفة وتطبيق روحية “اتفاق الطائف”، ودعم الدولة ورفض الدويلات وحصر السلاح في يد الجيش والقوى الشرعية ومنع انفلاش سلاح الميليشيات اللبنانية والفلسطينية. وحضر موضوع خطر توطين الفلسطينيين وانفلاش السوريين كأولوية على الأجندة المسيحية.

أما ثاني الرابحين من هذه اللقاءات في بكركي فهي “القوات اللبنانية” وحلفاؤها في المعارضة كـ”الكتائب” و”الوطنيين الأحرار” و”حركة الاستقلال”، وفق المصادر السياسية المطلعة، “لأنها منسجمة مع ثوابت البطريركية المارونية، ولو اختلفت على بعض الأولويات، مع سيد بكركي، إلا أنها مرتاحة للأفكار المتداولة وخصوصاً النزعة السيادية التي تأتي في صلب اهتمام القوات، وتجنّبها الحوار المسيحي على مستوى القيادات بعدما أُصيبت بخيبات سابقة”، معتبرة أنها “تلتقي مع بكركي على أن تكون الوثيقة وطنية، لا مسيحيّة الطابع، لتُعرض في وقت لاحق على المسلمين، فتأخذ بُعداً وجودياً ووطنياً أكبر”.

ويأتي “التيار الوطني الحر” في المرتبة الثالثة في قائمة الرابحين، وتشير المصادر إلى أن هدف باسيل كان الحوار على مستوى القيادات لتعويم نفسه سياسياً نتيجة إدراكه بأن شعبيته المسيحية تذبذت، بل فقد الكثير من الأوراق التي كان يبتز بها “حزب الله”، إلا أن مشاركة ممثليه في اجتماعات بكركي لم تكن سلبيّة لجهة تكريس حضور تياره كقوى مسيحية أساسية، ومشاركته في الاتفاق على رؤية موحّدة سرعان ما ستنطلق، على شكل وثيقة، من بكركي. علماً أن موضوع القرارات الدولية لاسيما القراران 1701 و1559، وجد “التيار” صعوبة في هضمهما، معتبراً أن ذكر القرار 1559 يثير حساسية كبيرة لدى الطائفة الشيعية، و”الحزب” بالتحديد الذي سيفهم فيه الوجه الآخر لقرار تجريده من سلاحه، بل يصبّ في الهدف نفسه، لكن القوى السياسية الأخرى وخصوصاً “القوات” و”الكتائب” يريدان أن يعترف “التيار” بضرورة التخلص من فائض القوة في “الحزب”، كي يتوازن مع الشركاء الآخرين في النظام والدولة والمجتمع. بينما يقول “التيار” إن المطلوب “احترام” القرار 1559 لا فرض تنفيذه، المستعصي في كل حال، فيما يعتبر الفريق الآخر أن التزام تنفيذه هو المدخل إلى الحياد، وهما نظرتان متناقضتان، يبدو أن هذا الموضوع الحسّاس رحّل إلى اجتماع آخر للبحث فيه.

أما الخاسر الأساسي والوحيد الذي بدا أنه يغرّد خارج السرب المسيحي وبعيداً عن ثوابت بكركي ومرجعيتها التاريخية، فهو تيار “المردة”، وتلفت المصادر السياسية إلى أن رئيس “المردة” سليمان فرنجية ارتكب خطأ سياسياً فادحاً بوضع نفسه في جبهة الثنائي الشيعي، مقرراً الإبتعاد أكثر وأكثر عن إجماع مسيحي حول بنود أساسية قد تتضمنها هذه الوثيقة، على الرغم من محاولات المطران بو نجم التواصل مع فرنجية من دون أي جواب واضح. وتساءلت المصادر السياسية: كيف يقاطع فرنجية اجتماعاً مهماً كهذا؟ ألا يهمّه الشأن المسيحي والوطني؟ وهل هناك كلمة سرّ من الثنائي الشيعي طلبت من “المردة” عدم الحضور لضرب هذا اللقاء؟ وكيف يمكن لمرشح رئاسة الجمهورية الذي هو أعلى منصب مسيحي في لبنان والشرق عدم تلبية دعوة بطريركيته؟ وهل بات ابن زغرتا لا يمنح بكركي اعتباراً؟

من المؤكد أن هناك عتباً شديداً من بكركي على “المردة”، وفق المصادر، وهذا التوجّه لا يخدم “المردة” ولا رئيسه، إذ سيجعله مرفوضاً كمرشّح أكثر من السابق، وربما سيفقد حيادية بكركي التي حافظت عليها حتى اليوم حياله.

وتعتبر المصادر أن الاجتماعات في بكركي لا تبحث في أسماء المرشحين بل في مبادئ وثوابت مسيحية ووطنية، ولا داعي لأن تكون هناك مخاوف لدى فرنجية من أي إحراج على هذا الصعيد، إلا أنه اختار هذا الموقف المستغرب وكأن الإحراج سببه التطرّق إلى موضوع سلاح “الحزب”، ولن ينفع أي مبرر يستند اليه بأنه يريد حواراً وطنياً لا مسيحياً، فالبيت المسيحي يحتاج إلى تنظيم وتوحيد بعض المقاربات الأساسية قبل الانطلاق نحو الشركاء في الوطن.

على أي حال، قد تجد الوثيقة المسيحية الوطنية اهتماماً من القوى السياسية في الطوائف الأخرى والقوى السياسية الممثلة لها، لأنه أساساً، لا أحد من الفرقاء السياسيين الأساسيين يختلف مع ثوابت بكركي، الا “حزب الله، لذا من الضروري البحث عن آليات عملية لطرحها على الفريق الآخر، فهل ستصطدم جهود بكركي ووثيقتها بحاجز مشروع “الحزب”؟

جورج حايك- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة