استبعاد “توتال” عن نفط لبنان “مش بوقته”… و خطوة قد تكون ناقصة!
تعود مستجدات الخلاف مع شركات الإستكشاف والتنقيب إلى الواجهة من جديد بعدما بدأت الإستعدادات في وزارة الطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول لطرح دفتر شروط جديد معدّل، يتماهى مع الشروط والتعديلات المالية التقنية والزمنية التي أقرها مجلس الوزراء في 19 كانون الثاني 2024، لتلزيم البلوكين 8 و10.
ومن الشروط، رفع حصة لبنان المالية وخفض المهلة الزمنية المفترض خلالها الانتهاء من أعمال المسوحات الزلزالية وصولاً إلى الحفر، وهي التعديلات التي كانت السبب المباشر أو المعلن (على الأقل) مع شركة “توتال” الذي أفضى إلى خروجها من الإتفاق وعدم توقيع العقود والموجبات مع لبنان قبل انتهاء المهلة القانونية.
خروج الكونسورسيوم المؤلف من تحالف شركات “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”قطر للطاقة”، من الإستثمار في مشروع استخراج الغاز والنفط في البلوكين الثامن والعاشر، قد يكون مرّ من دون الكثير من الضجيج والصراخ المعتاد في الحياة العامة اللبنانية، وربما يكون السبب ارتفاع صوت قرع طبول الحرب والمواجهات اليومية على الحدود الجنوبية، الذي يغطي ويعلو بجنونه الدموي على جميع الأصوات والتحليلات الإقتصادية والمالية والنفطية.
بَيد أن الموضوعية في مقاربة هذا الأمر تفترض الحرص الشديد في معالجة هذه المشكلة التي تكاد تتحول مع الوقت مصدر “شؤم” موجع لدى اللبنانيين، إذ كلما لاحت أمام عيونهم بارقة أمل ما، أو باب من أبواب النفاذ إلى إنقاذ موعود، ومن ثم الخروج عبره من القعر المالي والإقتصادي، والشحّ في الخدمات العامة، تحضر من حيث لا تفسير لها عقبةٌ أو مشكلة تستدعي التأجيل، أو حدثٌ ما يعيد المسار النفطي إلى مربعه الأول.
تؤكد مصادر متابعة أن ما قد يكون فعله وزير الطاقة وليد فياض محقاً وقانونياً، ولا يُلام عليه بالمباشر، “بل يمكن تفهّم موقفه. فالرجل يسابق الوقت والإنهيار الإقتصادي، ويسعى الى تحقيق استقرار نهائي ثابت ومستدام في آلية الإستكشاف والتنقيب واستخراج الغاز والنفط. لكن قاعدة أن “نصف إنجاز أفضل من لا إنجاز”، وأن ايّ تباينات أو اختلاف في وجهات النظر حول تقدير واحتساب المهل والوقت اللذين تحتاج إليهما شركة دولية بحجم “توتال” لتقديم تقاريرها النهائية، يجب ألّا تدفع الدولة اللبنانية إلى التخلي عن خدمات كونسورسيوم بحجم الثلاثي “توتال” و”إيني” و”قطر”، لما لهذه الشركات العابرة للقارات والدول من علاقات وصدقية وحضور فاعل في القطاع النفطي عالميا”.
قد يظن البعض أن خروج “توتال” وأترابها من العقد مع لبنان، لا يعدو كونه تغييراً روتينياً في انتقاء شريك دولي، فيما الحقيقة برأي المصادر أن “الموضوع قد يلامس في بعض جوانبه خطورة أن لا يجد لبنان بعد إطلاق جولة تراخيص جديدة شريكا آخر، بسبب تعقيدات الوضع اللبناني السياسي والإقتصادي وحتى الأمني، وبسبب توتر الميدان الجنوبي، وفي الإقليم. وإذا ما وُجد هذا “المغامر” المستعد لتجاوز الأخطار المحدقة وتحمّلها، فهو قطعاً لا يمكنه أن يلعب الدور الذي كان “الكونسورسيوم” القديم يلعبه، ولا يملك تلك المناعة والحماية اللتين تؤمّنهما دول مثل فرنسا وايطاليا وقطر للإستثمار في ملف الغاز والنفط اللبناني”.
“مش وقتها” ربما تكون العبارة الفضلى أو النصيحة التي على العقلاء إسداؤها الى الدولة اللبنانية والمسؤولين المباشرين فيها عن الملف النفطي وعقود التلزيم والتراخيص، فيما الأشهر الستة الإضافية التي أشهرت الخلاف مع” توتال” “مش محرزين”، تقول المصادر، “فالبلاد تنتظر نفطها وغازها منذ عشرات الأعوام، وما صرفه اللبنانيون من أعمار في الإنتظار يتجاوز ذلك بأشواط”. فهل أخطأ لبنان بإحراج “توتال” ودفعها الى عدم الاهتمام بالثروة النفطية اللبنانية؟
الوزير فياض جدد تأكيده لـ”النهار” أن “توتال مرحب بها في أي وقت تريد التعاون معنا، ولكنها وضعت شروطا لم تناسبنا. فهي كما أصبح معروفا ترفض تقليص المهلة الزمنية وتصرّ على الاستمرار في أعمالها حتى العام 2027، في حين يطالب لبنان بتقليص الفترة الى سنة ونصف سنة، أي حتى منتصف العام 2026 كحد أقصى، ونحن مصرّون على موقفنا الذي لا يُعتبر موقفا متصلبا بل هو معتدل، علما أننا تواصلنا معهم لخفض المهل التي وضعوها لإبلاغ الجانب اللبناني لتقرر ما اذا كانت تنوي الحفر به أم لا، ولكنهم أصروا على فترة السنتين”. وقال: “حتى اليوم لا اتفاق في انتظار أن يبدلوا رأيهم أو يتنازلوا بعض الشيء، مع اقتناعنا بأن الشركة غير متحمسة للعمل في لبنان، نظرا الى أن الكميات التي يُفترض أنها موجودة في لبنان لا تغريها مقارنة مع حجم الاعمال التي تقوم بها في دول العالم، هذا عدا عن العامل السياسي”.
في الانتظار، يؤكد فياض أن “لبنان سيعمل على خيارات بديلة. لكن العائق الذي أمامنا هو أنه بحسب المرسوم التنفيذي لدفاتر الشروط يتعيّن ان يكون لدى الشركات المشاركة أصول تناهز الـ10 مليارات دولار، وهذا الأمر يقتصر على شركات عالمية محددة. لذا يتوجب علينا تغيير هذا الشرط للسماح لمروحة اكبر من الشركات المشاركة مع استعدادها للتنقيب في بيئة تتسم بمخاطر امنية وجيوسياسية. فالشركات العالمية الكبرى التي نتواصل معها لديها محاذير عدة للمشاركة في منطقة مخاطر لا تُعتبر أولوية لها، فضلاً عن أن كل الكشوفات تبين أن كميات مخزون الغاز اللبناني يمكن ألّا تغري الشركات الكبيرة للمخاطرة. من هنا علينا التواصل مع شركات أصغر يمكن أن تتحمل مخاطر أكثر وتولينا أهمية أكبر”.
ولكن بما أن المنطقة فيها هذا الكمّ من المخاطر ووضعها الأمني لا يشجع على التنقيب، قد يقول قائل إنه كان يُفترض بالجانب اللبناني أن يحافظ على العقد مع “توتال” في انتظار جلاء الصورة… لكن فياض يؤكد ان لبنان أعطى فرصة ووقتاً لـ”توتال”، وحاولنا التنازل أكثر ما يمكن انطلاقا من المثل القائل “عصفور باليد أفضل من 10 عصافير على الشجرة”، لكنهم لم يلاقونا في منتصف الطريق”. وأشار الى ان “البلوكات 8 و10 و4 أصبحت في حِلّ من “توتال” باستثناء البلوك 9، إذ بحسب شروط العقد فإن فترة الاستكشاف الاولى تنتهي في أيار 2025، وتاليا يمكننا تلزيم بقية البلوكات لشركات أخرى في دورة التراخيص الثالثة التي تنتهي في تموز 2024، وحتى ذلك الوقت علينا التواصل مع الشركات وتحسين شروط الدخول والمشاركة، وفي الوقت عينه نؤكد أننا لم نغلق الباب نهائيا مع توتال”.
أبي عاد: خطوة قد تكون ناقصة!
الخبير الدولي في اقتصادات الطاقة ناجي أبي عاد لم يستسغ التخلي عن “توتال” في ظل الظروف القائمة في المنطقة حاليا، منتقداً “الطريقة التي تم التعامل بها بما أدى الى خروجها، فيما كان الاجدى بالمسؤولين عن الملف النفطي مسايرتها للافادة من وجودها بما يشجع شركات أخرى على الاهتمام بالاستكشاف والتنقيب عن الغاز في لبنان، إذ من الواضح أن الوضعين الأمني والجيوسياسي في المنطقة لا يشجعان الشركات على توظيف اي استثمار، وتاليا فإن تغيير شروط العقد مع “توتال” في هذه الظروف تحديدا خطأ كبير ارتكبه الجانب اللبناني”.
وقال: “على المسؤولين عن الملف النفطي أن يتمتعوا بالمرونة والروية في هذه الفترة حيث لا تسمح الاوضاع بأي خطوة قد تكون ناقصة، والعمل في المقابل قدر الامكان على استقطاب أكبر عدد ممكن من الشركات، اضافة الى المحافظة على الشركات التي تعمل حاليا لأهميتها الجيواستراتيجية، إذ ليس من المعقول أن نضغط عليها على خلفية الفترة التي حددتها للاستكشافات”، معتبرا أن “توتال” خبيرة في مجالها ولديها مساهمون، “وليس من مصلحتها أن تطيل مهل الاستكشاف بما يكبدها أموالا طائلة. كما انه لا يعقل تغيير الشروط التي على اساسها وقّعوا العقد، ونلزمهم الموافقة عليها، علما أن الشركات الكبيرة مثل “توتال” تحرص على عدم إنفاق الأموال، وتاليا ليس من مصلحتهم اطالة المُدد إذا لم يروا ضرورة لذلك”.
وختم أبي عاد مجددا تأكيده أن “الوقت ليس مناسبا للضغط على الشركة، بل كان الاجدى المحافظة على وجودها في لبنان لأسباب عدة، أهمها أن وجود الشركة يشجع الشركات الاخرى على المجيء الى لبنان”.
النهار